اسفر الصبح ولم تنم تلك الليلة عيون مها، تسير بين سنابل القمح و على رأسها جرّة الماء، اوقفوها رجال ((الكبير)) وامروا ان تفتش فهي الوحيدة التي هربت ليلة امس من المزرعة، أربعة من الشبان الأشداء من اهل القرية وقفوا بوجههم، ومنعوهم من الامر، اكملت طريقها مها بين اغصان الاشجار المثمرة، كانت ساعة رهيبة، وصلت الى باب المزرعة، رجال معلقين..
رمقها ((الكبير)) وطلب من رجالة ان تفتش ويسجن ابيها وامها، ان لم يجدوا المسروقات، احاطها الرجال من حولها، قيدوا يد ابيها، ورموا بأمها ارضا، قالوا لهم انكم من سرقت اموال ((الكبير))، رمت الجرّة من على رأسها، كانت ساعات الصباح الاولى، وأجسامهم شبه عارية، وهي تتصبب دما، لامجال للهرب، أحرقت قلبها بنيران الهاجرة، وقفت امام ((الكبير)) وصرخت: انا من دخلت الحجرة، صرخت امها: لا لا تصدقوا انا.. انا... اما الاب وقف صامتا حائرا، من ينقذ.. زوجته العجوزة ام ابنته الشابة.
قاطعت مها أمها وهي تتصبب عرقا، وترتعش كسعفة نخل مرت بها رياح الصيف، انا من سرقت الاوراق وهذه هي!! ليس كما قلت ذهب ولكنها اغلى منه.. التفتت الى اهل القرية: هذه الاوراق هي ميثاقكم وحريتكم، لم اجيد قراءتها لكن حرص الكبير عليها جعلني اعلم بأنها مهمة، رفعت رأسها وخاطبته: كفاك ظلما وقهرا ايها الجبار العتيد، انك فرعون عليت واستكبرت، وجحدت حقوق الفقراء، واستعبدت نسائهم، كفى.. كفى..
كان الصمت على أشده فى المكان، والسكون مخيم، وصوت مها يرن في مسامع اهل القرية، ((الكبير)) يشير الى الرجال بقيدها وسجنها على باب المزرعة من دون طعام ولا شراب، تكاتف الفلاحين ووقفوا مع مها لكنهم لا يملكون القوة، قيدوها كما يقيد الاسير، انقلبت ملامح وجهها إلى وجه لبوة جريحة، ومضت الى جذع النخلة، واحتواها ظلام الشمس في نصف الصباح، وبقيت تحت الشجرة ايام وليالي، لم ينفع مع ((الكبير)) دموع أمها ولا شيبة أبيها، جلسوا بالقرب من ابنتهم مها ينظرون اليها، تقترب الام وتفرش شالها كي لا تحرق الشمس زهرتها، اما الاب فيجلب الماء ويقطره على رأسها لينزل على ثغرها الشاحب.
زهرة العمر
((الكبير)) يسرق إليها النظر بدقة متعمدة، يزيد حماسه في تعذيبها، يسقط يوم، يتبعه الثاني، مها مازالت مقيدة، رفضت الاعتذار او ان تسقط حقها، فهي الفتاة الوحيدة التي طالبت بحقوق الفلاحين ورفضت ظلم ((الكبير)) وقدمت نفسها قرباناً لتنجي قومها من سوء فعلته وعذابه، ارسل (( الكبير)) الى كبار القوم ان يحضروا في الحال، ليبتوا في حكم القضاء على مها، انطلق الصراخ من جنبات الدار وسرى الخبر فى القرية مسرى النار فى الهشيم، وانتقل منها إلى القرى المجاورة.
جاءوا الحكام وقص عليهم ما جرى!! الحاكم الاول قال: تموت جوعا وعطشا.. الثاني: تضرب على رأسها وتعلق على الجسر في القرية، اما الثالث فقال: تزوجها ايها ((الكبير)) فأنها امرأة قوية وبنت طهورة قدمت نفسها لإنقاذ اسرتها وابناء قريتها..
فكر (( الكبير)) في كلامه؟!
ظهر بياض اسنانه ولعلها المرة الاولى التي يبتسم فيها، طلب من الحرس ان يطلقوا سراح مها ويأتوا بها مع اسرتها في حجرته، اطلقوا سراحها، واطعموها، توقف الدم في يد مها من اثر القيد، دخلوا حجرة ((الكبير)) افصح ((الكبير)) عن رغبته في الزواج من مها وان رفضت ستموت حرقا.
استبشرت الام وفرح الاب، ها هو الكبير يعفو عن مها، تستند مها على امها وبكل ثقة وكبرياء وبعد التعذيب والسجن رفضت طلبه، وقالت: اني ارفض طلبك، فلست جارية تباع وتشترى، وان اردت حرقي فالنار اولى من العار، غضب الكبير وطردها من حجرته، امسك بيد ابيها وهمس في اذنه مها ستكون زوجتي.
علم الاب رسالة الكبير وتحدث مع ابنته وطلب منها ان توافق على هذا الحكم لعل الله يحدث بعد ذلك امرا، بعبرة وغصة لم ترفض طلب ابيها، وتجاعيد سنه، وشيبته التي اشتعلت قبل اوانها من ظلم الكبير: ابي ان كان هذا يرضيك ويرضي امي نعم سأتزوجه ولي معه كلام ان وافق عليه سأكون له، سمع بحديثهما، ضرب الستار ودخل.
وقفت امامه وبكل شموخ وعز قائلة: ان اردت ان تكون زوجي فعليك ان تقبل شروط الاقتران بي، لا تظلم رعيتك، واجعل لهم اوقات راحة، وادفع لهم استحقاقاتهم من المال والطعام، وان احقق رغبتي وحلم طفولتي واتعلم الكتابة والقراءة.
وافق ((الكبير)) على شروط مها، اطلق سراح السجناء من الفلاحيين، ووزع الاراضي على اصحابها، وفتح دار لتعلم الكتابة والقراءة، كانت الأيام تمضي رتيبة، كل شيء يضحك ويبتسم في وجهها، وكانت الحياة قد تلونت بألوان الطيف السبعة، بنى لها قصراً ضخماً يطل على ثلاثة انهار واثقل يديها بأساور الذهب المرصعة، اسكنها القصور الشامخة، في كل مكان في المدينة ترى تلك القصور، تاقت لأطايب الحياة، تغير ((الكبير)) بعدما عرف ان الحرية بالحب والسلام لا بالتعصب والحرمان، بدأ الفلاحون يعملون بجد ونشاط بعدما نالوا حقوقهم وعلموا اطفالهم، حتى النساء بدأن يتعلمن الكتابة والقراءة، بعد ليالي من الفرح والسعادة، اقترب موعد زفاف سيدة القرية مها على كبير القرية محمود هذه المرة الاولى التي تعرف القرية اسم كبيرها، أتوا باكرا الى بيت العروس وملأوا القرية بالزينة والالوان، كانت العروس ترتدي ثوب ابيض فضفاض وشال ابيض مزخرف بورود كبيرة ، النساء شرعن يغنينّ لها الأنشودة التقليدية بالعرس: عروستنا حديقة والورد بيها، ارتفعت صوت النساء وزغاريدهنّ، يطلينّ وجهها بالمساحيق التجميلية التقليدية، ويضعن على شعرها تاجا من الورود، تخرج العروس من بيت والدها برفقته، يمسك بيدها وينزل البرقع الابيض على وجهها الملائكي، وبين الزهر والطيب، تخرج مها من دار ابيها الى دار اميرها، يتوجه الموكب سيرا على الأقدام نحو الكبير.
يتسلّم عروسه بعد انتهاء العقد القرآني، توزع الحلوى على الفلاحيين، والهتاف المتعالي من الفلاحيين، بعد برهة دخلت العروس وملكاتها، مدّت لها مائدتان كبيرتان مملوءتان بالأطايب والمآكل الفاخرة، بعد سنين عجاف وسنوات الصبر هاهي السعادة، تغيرت معاملة ((الكبير)) مع الفلاحين وابناء القرية، اما مع مها فأصبحت اميرة مدللة في قصر الكبير، فعلت ما لم تفعله امرأة من قبل، غيّرته من وحش مفترس من ظالم مخيف، الى رجل هادئ مبتسم، زرعت حبها في قلبه، سقى زرعها بالاهتمام والحب والتغير من اجلها، فكانت قصة زواجهما مثل يضرب في القرية.
بعد مرور عام من زواجهما رزقت مها بأول مولود لها فكان ذكرا واطلقت عليه اسم ((سعيد)) وانجبت بعدها طفلة، ((سعاد))، لترى السعادة بأولادها، تغير اسم القرية القديم واصبحت القرية تدعى ب ((عيون المها)) على اسم سيدتها، بقيت متواضعة تفترش الارض تتحدث بلغتها الريفية، تصحى من الفجر، ترعى اغنامها، و((الكبير)) يتفقد الزرع ويسقيه، يلتقيان عند شجرة السدر ويتسامران وحولهما الاولاد يلعبون، انتهت رحلة العذاب والعناء وجاءت ليالي السعد تناغي ليل مها، الماء والخضراء ووجه مها ، رفعت نظرها الى السماء شاكرة لله على النعمة، كبرت مها واولادها وتزوجت ابنتها، وعاشت عيشه سعيدة، ضحكوا الاولاد وهم يستمعون قصة جدتهم مها وجدهم ((الكبير)).
الحب هو الحياة فلا يمكن أن نتصور الحياة بدون وجود أشخاص نحبهم ويحبوننا، ويعطونا الأمل ويهتمون بنا ويعشقون كل تفاصيل حياتنا بحلوها ومرها ويتحملونا بفرحنا وحزننا وبكل ما نمر به من مشاعر وظروف، وحياة المحب دائماً عبارة عن دوامة من الجمال واللوعة واللهفة، أعرف عن الحب أنه لا يمكننا أن نعيش بدونه، وأنه غير مرتبط بزمان ولا بمكان، وأعلم أن الحب يعني أن نقبل كل ما يحيط بنا بدون أن نتكبر عليه أو أن نطالبهم بالتغيير لأجلنا، والحب يعني أن نموت ألف ألف مرة ليحيا من نحب بسعادة وهناء، وأهم ما أعرفه عن الحب هو أنه لا يمكن أن نبني السعادة على تعاسة الاخرين، فلا يمكن أن نقبل بذلك، في سبيل الحصول على أوقات معينة نسعد بوجودها بحياتنا.
اضافةتعليق
التعليقات