23.اغسطس. 1989 بدأنا المغامرة نحن الثلاثة (انا والسفينة والمرشد)، لمدة عشر سنين كان المرشد يعلمني كيف اقطع عرض البحار، كل شيء كان على ما يرام مادام المرشد معي وحولي.
٢٣.اغسطس.٢٠٠٩، بلغت العشرين من عمري واصبح الشك رفيقي، شخص آخر أُضيف الى طاقم العمل مؤخراً، هنالك أسئلة تدور في رأسي، ما الهدف من الإبحار؟ وهل علي ان أواصل الإبحار؟ وإلى متى علي أن أبقى في عرض البحار؟ كثرت هذه التساؤلات في الآونة الأخيرة، واصبح هنالك تردد يرافقني، لم أعد ارى المرشد حولي، مضى وقت طويل منذ آخر مرة رأيته فيها، دفعني موج الشك والتردد حتى علقت في مكان مجهول، لا أعرف اين انا بالضبط، انادي المرشد باستمرار فيجيبني الصمت؛ عندها عرفت ان المرشد قد انتهى دوره لم يعد له وجود في حياتي، مثل الطيور التي ينتهي دورها عندما تحلق فراخها. هكذا هي الحياة.
الآن حان دوري لأقف بنفسي، لن أجد المرشد حولي بعد الآن، فقد بدأ الاختبار الحقيقي الذي علي أن أجتازه وحدي، عندها اكتشفت كم هو مرير شعور الوحدة وكم هو ثقيل عبء المسؤولية..
مضت أربع سنوات أخرى وأنا ضائع في مكان مجهول، دون وجهة معينة بلا خريطة بلا هدف، اشتد البرد وتدهورت صحتي أحاول ايجاد طريقي وسط الضباب الكثيف ولكن دون جدوى
لمست الشراع ثم الدفة وفي داخلي أسئلة كثيرة، لماذا لا تساعدني يا جسد؟! اه، لقد نسيت حقيقة اننا واحد انا و أنت، ما يحدث لك الآن بسببي لأني مريضة ومتعبة عندما تتعب الروح يمرض الجسد، نظرت حولي فوجدت المرض يجلس في ركن السفينة لا يفعل شيئاً سوى الأكل لقد أفسد المؤونة بالكامل وزنه يزداد أكثر فأكثر.
٢٣.اغسطس.٢٠١٢
ها قد اعترض طريقنا اعصار آخر، كل شيء في حالة فوضى عندها لمحت احدهم يطفو فوق حطام خشب رميت نحوه طوق النجاة، كان شاباً ولكن شعره ابيض وعيناه ذات نظرة حادة كالسكين، طويل وهزيل كأنه هيكل متهالك، سألته ما اسمك رد (يائس)، ثم ابتسم ابتسامة ساخرة، شكراً لإنقاذي، لابأس بمكوثي هنا؟
انا: لا أمانع من مكوثك، الأمر لا يهم على أية حال .
هو: ستكون الرحلة شيقة، ثم مررنا بجانب أمنية، وقف للحظة يحدق بها كأنه يقوم بامتصاص طاقة الهالة المحيطة بها، ما هذا الاحساس الغريب الذي يتملكني لمّا أشعر بالضعف فجأة؟. أمرت بمنحه غرفة ليستريح ثم عدت لمقطورتي، لحقت بي أمنية، لِمَّ سمحت له بالمكوث معترضة؟!، هنالك أمرغريب بشأنه، ألم ترَ بأن هنالك هالة كبيرة من الظلام تحيط به.
أنا: أنا متعب نتحدث لاحقاً
لم أعرف وقتها ان هذا سيكون آخر حديث لي مع أمنية. خوف يلح علي ان أرسو في أي جزيرة تقابلني، السفينة لن تستمر أكثر، لِمَ لا ترسو في أي جزيرة تقابلك، ألا ترى أصبح الخشب بالياً والأشرعة مهترئة، وهنالك عدة ثقوب والمؤونة قاربت على النفاذ (وووووو) وكم كثُر حرف الواو في حديثه، ضقت ذرعاً بتذمره لم علي ان ارسو؟ إن فعلت ذلك، عندها تنتهي المغامرة ولن يكون هنالك مغزى لحياتي. خوف، هل تظن انك قادر على الابحار طوال حياتك؟ انظر من حولك لم تعد مثل سابق عهدك، انت لست بارع كما كنت قبلاً، لقد فقدت قدرتك يجب أن تستسلم وترسو في أي جزيرة، هذا افضل للجميع، انظر الى أمنية لم نسمع عنها خبراً منذ فترة طويلة انها تحتضر بالفراش، الجزيرة هي فرصتك الأخيرة، تباً فلتجد أي جزيرة، فكر فيما قلت سأنصرف الآن، وبينما انا امسك بالدفة وجدت يائس خلفي، همس في أذني ان خوف على حق، أنت لم تعد كما كنت لقد فقدت مهاراتك، انت لست رباناً جيداً، لا احد يثق بك، لست سوى فاشل، لمَ لا ترسو في أي مكان وتنهي الأمر ما الهدف من الابحار!
انا: لقد نسيت ما الهدف؟ أرأيت بنبرة متهكمة تابع، أنت لست سوى روح أخرى متعبة قاربت على النهاية، كل ما قدمته حتى الآن ستتبخر معه في الهواء مثل بخار ماء، لم تقدم حتى الآن شيئاً عظيماً يُذكر أو يُخلد بعدك، لمَ لا تستسلم الآن، كل شيء على وشك الانهيار. على أية حال ما الفائدة من المعاندة والاستمرار؟! فلتذهب الى فراشك، اغمض عيناك وصُم أذنيك، فقط تجاهل كل شيء وغُط في نوم عميق. لم ابارح الفراش بعدها، مضت اسابيع، وعندما اعترضت طريقي عاصفة أخرى، لم استطع الحركة والتصرف سريعاً، كان جسدي ثقيلاً وحركتي بطيئة، غمرت المياه المكان وفقدت الوعي بعد العاصفة، وجدت نفسي على جزيزة صغيرة جداً ورحت اتجول هائماً، لا فكرة لدي أين أنا أو ما هذا المكان حتى وجدت تمثال على هيئة شخص يرتدي ملابس غريبة تعتليها قبعة ونظارة وكتاب في يده، لمست الكتاب سمعت صوتاً غريباً كأنه صوت تشغيل آلة فجأة تحول لون الكتاب الى أزرق مضئ وامتد الضوء حتى شمل كامل جسده، عندها تحول التمثال المتحجر الى كائن بشري يتحرك في الأرجاء مثل روح حبيسة لعدة سنين قد تحررت الآن، تقدم نحوي سقطت على الارض، مدّ يده نحوي، يبدو بشرياً تماماً بنظري، أخذت يده ونهضت، لا تخف قال أنا هنا لإرشادك نهضت وتجولت معه حول الجزيرة كان يتكلم عن شيء يدعى العقل الباطن وكيف انه يمتلك قدرات هائلة من شأنه أن يساعدنا في حياتنا اليومية ويغير مصيرنا، لم اصدق كلامه في البداية ولكنه أصر على انه يملك دليل حول الموضوع مشينا سوية حتى وصلنا الى مرفأ الجزيرة حيث وجدنا بحّار صعدنا على متن سفينته، وما إن ابحرت السفينة حتى توجه نحو البحار وضع يديه على كتف البحار وحدق في عينيه كأنه يقوم بإخضاعه ثم قال (انك تبدو على غير ما يرام ألا تشعر انك على وشك الإصابة بدوار البحر) صمت البحار لوهلة وعلامات الدهشة بادية على ملامح وجهه كأنه تحت تأثير تنويم أو قوى خارقة خارجة عن ارادته ثم انفجر ضاحكاً قال وهو يدفع صدره نحو الامام لِمَ اصاب بالدوار وانا قد اعتدت الابحار منذ نعومة اظافري. لم افهم شيء مما حدث ولكنه اشار الي ان اتبعه مشينا على ظهر السفينة حتى قابل راكب كرر معه نفس العملية وما هي إلا ثواني حتى خر الراكب أرضاً وهو يعاني من دوار البحر بعد أن تحول لون وجهه الى اصفر. أرأيت قالها وهو يشعر بالفخر ولكني لم أفهم لمَ لم تنجح مع البحار، ونجحت مع الراكب، إليك حل اللغز انه يكمن في العقل، كما ترى هنالك عقلين احدهما الحارس، حارس البوابة ويدعى العقل الظاهري انه يقوم بحماية العقل الباطني الذي يمتلك قدرات هائلة وخارقة للطبيعة بإمكانه ان يحقق لك كل ما تتمنى ولكنه في نفس الوقت ضعيف جداً بإمكانك السيطرة عليه واخضاعه وايهامه ان كل ما تقوله او تُصوره له هو الحقيقة حتى وان كانت غير معقولة مثلا ان قلت لمالكه انه قرد سيصدق ذلك ويبدئ بالتصرف كقرد، وذلك لان العقل الباطني يسهل انقياده بالإيحاء ولكي تصل إليه عليك ان تتخطى الحارس وذلك يحصل بالتنويم إن تمكنت من اخضاع الحارس للتنويم المغناطيسي ستتمكن من الوصول للعقل الباطني وطلب كل ما تريد منه. كما رأيت لم تنجح الخدعة مع البحار لأنه قام بتحصين الحارس فهو اعتاد على الابحار منذ نعومة اظافره لذلك من غير المعقول ان يصاب بدوار البحر وعندما حاولت فرض ايحاء الإصابة بالدوار فان ذلك ارتبط بالمناعة ضد هذه الفرضية في ذهنه وبالتالي فان فرض هذا الإيحاء لم يسبب له الخوف أو القلق بل زاد ثقته بنفسه على عكس الراكب الذي استجاب للإيحاء السلبي من جانبي مما أثار في داخله الخوف من هذا المرض لأنه لم يعتد الإبحار ويخشى الإصابة بالدوار. لكل واحد منا مخاوفه الخاصة داخل نفسه ، وهذه المخاوف هي التي تحكم وتدبر حياتنا. الإيحاء لا يمتلك القوة في حد ذاته إلا في حالة قبولك له عقلياً كما حدث مع الراكب.
وكما قال نابليون هيل "ليس هناك حدود للعقل يقف عندها، سوى تلك التي اقتنعنا بوجودها"
ثم نظر بعمق داخل عيني وواصل الكلام انت تتسائل عن الهدف من الابحار أليس كذلك؟
فقط واصل الإبحار وستعرف بنفسك الإجابة
ثم وضع راحة يديه حول وجنتي مثل والد عطوف يُلقن ولده وصيته الأخيرة، سأهديك اثمن ما يمكن ان يهدى فاستمع الي بحرص من أجمل ما قيل عن العقل قول علي بن ابي طالب
"وافضلُ قَسْمِ الله للمرء عَقْلُهُ فَلَيسَ من الخيراتِ شيء يقاربه، إذا أكمَلَ الرحمنُ للمرءِ عقلهُ فقد كملت اخلاقهُ ومآربه" عندها عرفت اول مفتاح لحل اللغز، لازالت امامي مفاتيح كثيرة مخفية على جزر منتشرة حول العالم لكي أجدها ينبغي ان اواصل الإبحار.
كانت اول اهدافي عند عودتي هي محاربة يائس والقضاء عليه اما بالنسبة لخوف سيكون دائما معي وبجانبي، الخوف قد يكون احياناً مفيد في حياتي عندما يكون مقيد بحدود لن اسمح له أن يوثر على قراراتي نحن كبشر نحتاج للخوف ولكن ليس بالدرجة التي تجعلنا مسيرين ومنقادين له، سيكون طريقي طويل وشاق ولكني الآن اعرف ما ينبغي علي فعله.
*السمكة القوية هي التي تستطيع العوم ضد التيار
في حين يستطيع حتى السمك الميت ان يعوم مع التيار.
اضافةتعليق
التعليقات
iraq2018-03-06