كثيرا ما يُفسر النظام و التنظيم بغير ما هو عليه، فيظنه البعض انه الاستقامة والترتيب الدقيق في مختلف جوانب الحياة بلا انحراف او انحناء عن المسار، فينعكس على سلوكهم ومجرى حياتهم، وربما يصل الامر الى نشوء حالة مرضية او الدخول في ازمة نفسية.
السيدة نادية تستغرق عدة ساعات يوميا في تعديل وترتيب مقتنيات المنزل جميعها بدقة متناهية بحيث ترتبها كصف مستقيم وبخطوط تجعلها تبدو كأنها جامدة ومتصلّبة، فكل شيء في مكانه من دون انحراف... من سريرها الى فرشاة الاسنان.. الدقة المتناهية جعلت المدراء في عملها يسعون كي تعمل لديهم، اما من تحت تصرفها فغالبا ما يتململون ويطلبون الانتقال الى قسم اخر من الشركة.
في مكتبها اثاث بسيط ومرتب بدقة وهدوء، اوراقها موضوعة واحدة فوق الأخرى بدون فارق ولا حتى ملم واحد ، واقلامها مرتبة بشكل افقي، على طاولة ناصعة البياض كجميع أجزاء مكتبها، فهي تعشق اللون الموحد وتكره تداخل الألوان كما تكره تداخل الخطوط.
لم تنس يوما ان تكوي ملابسها، ولا ان تلمّع حذاءها، ولا ان ترتب حقيبتها، بالعكس التنظيم شمل حتى محفظة النقود التي كانت هي الأخرى لها حظ من هذا التنظيم فالنقود مرتبة من الأكبر للأصغر ومعطرة برائحة الياسمين، اما النقود المجعدة فلا يحق لها ان تدخل محفظتها قبل ان تكوى وتستقيم.
استسلمت عائلتها لرغباتها بعد ان عجز الجميع عن تغييرها، فغيروا انفسهم ليتجنبوا ان تقع بنوبة هستيرية بسبب ما تدعي من منظورها وزاوية رؤياها انه فوضى..
محاولات زوجها المستمرة بالتقليل من هذا الترتيب الذي اصبح يهدد حياتهم وعلاقتهم الزوجية ويؤثر على نفسية الأطفال لم تجدي نفعا البتة، اقنعها زوجها ان تعرض نفسها على طبيب نفسي فكان جوابها لو كنت مريضة لما أصبحت معاون مدير الشركة وانت لاتزال موظف.
ربما قد تكون ناجحة في العمل لأنه يحتاج الى الدقة والجدية وعدم الحيادة في التصرفات والافعال، لكن الحياة الزوجية تحتاج للمرح والخروج العادة عن المألوف والتصرف بفوضوية عندما يستدعي الامر ذلك، او للسير عكس عقارب الساعة عند الضرورة..
تحاججهم بان الكون يسير بانتظام، الليل والنهار والدقة في الشروق والغروب.. الضغط والجاذبية والطاقة والعناصر والتراكيب وغيرها الكثير.
لكن هل اغشيت عينها عن النجوم المنثورة في السماء ولكنها تجذب الناظر لها... الم تشاهد اغصان الأشجار متشابكة لكنها جميلة... اليس قوس الله فيه سبعة الوان لكنه يسر الناظرين.. فليس من المعقول ان تكون الأشياء منتظمة القياس والشكل ولترتيب لتبدو جميلة.
رأي الطبيب النفسي كان تحتاج الى صدمة توقظها مما هي فيه.
لكن متى تحدث هذه الصدمة..
انها السابعة صباحا، اليوم عيد ميلادها الاربعون... تقف امام المرآة تسرح شعرها بطريقة منتظمة كعادتها كل يوم لأنها ترغب ان يكون شعرها ناعما ومستوي بدون أي تجاعيد.. لكن شيء ما لفت انتباهها..
انها خطوط ابتدأت من طرفي عينيها وحول شفتيها... تجاعيد.
انه التقدم بالسن، منظر ادهشها... شعرت بالقلق.. بدء قلبها تزيد دقاته... اخذت تهدّأ من قلقها وتتمتم بكلمات لا داعي للقلق كل شيء على ما يرام.
فتشّت بالمستحضرات الموضوعة امامها لتضع منها ما يناسب وما هو امثل لإزالة وتغطية تلك التجاعيد لكنها لم تكن ستائر او أوراق او شرشف سرير ولا أرضية حديقة ولا قطعة كيك يمكنها ان تجعله مستقيمة، انها خطوط تقدم السن..
قد بدت عليها اليوم اول الأشياء الخارجة عن السيطرة، الصفعة جعلتها تعيد شريط الحياة وكأنها تعيشه توا،
صرخت وبكت وانهارت لما يحصل لها والذي عبّرت عنه بانها كارثة خارج عن سيطرتها.. تذكرت قول والديها وزوجها ومن حولها من اقاربها وصديقاتها سيأتي يوما تجدين فيه ان هناك أشياء خارج عن تنظيم الفرد وسيطرته، أشياء ليست مستوية ولا خطوط لكنها لا تؤثر على الدواخل والفحوى فتبقى الأشياء جميلة ، لكنها طالما استهزأت بما يقولون واعتبرتهم يبررون الفوضوية التي يعيشون فيها.
تذكرت في احدى الأيام انها انبّت والدتها لأنها اعتذرت لعدم تمكنها من الالتزام بالحضور لان دقات قلبها تتزايد فتسبب لها التعب لذا لم تستطع ان تلتزم بالموعد.
ادركت في عامها الاربعون، انها تعجز عن ان تضع كل شيء تحت سيطرتها وترتيبها، فالأمور الكونية خارجة عن السيطرة، بل كل شيء يدار من قبل الله عز وجل انا كل شيء خلقناه بقدر وما نحن الا مسيّرون تحت امرته، اكتشفت في عامها الاربعون انها تحت السيطرة والتنظيم أيضا بجميع اجزاءها.
استلقت على غير عادتها على الأرض واستسلمت لنوم عميق في ساعات النهار الوسطى بخلاف نظامها المتعارف عليه، الاستيقاظ في السادسة والنوم في التاسعة.
استيقظت بعد عدة ساعات في ربكة من امرها.. ارتدت ملابس فضفاضة ومريحة، وبالوان زاهية مناسبة للحفلة البسيطة المعدة لها.. خرجت من غرفتها الى صالة الجلوس المعدة للاحتفال... اخبرت الخادمة بان تضع طاولة الاحتفال امام النافذة الكبيرة المطلة على الحديقة وترفع الستائر عن النافذة.. وان تستبدل البالونات البيضاء بأخرى ملونة.... و العديد من الأوامر الأخرى التي دونتها الخادمة وعلامات الدهشة والتعجب قد بانت على ملامحها!!
لم تكن تلك الليلة المرأة الالكترونية... بل كانت الام والزوجة والاخت.. تجاعيد وجها نبّهتها بأنه وان يكن هناك دقة ونظام الا اننا لا يمكن ان نجعل الأشياء باستقامة وبلا انحناءات... وان يكن هناك تعرّج وتداخل وتعشق وتذبذب، فذلك لا يمنع ان يكون الشيء صحيحا وسالما وناجحا، بل ربما تضفي ميزة او تجعل الشيء مفيدا بسبب ما تمتلك من مزايا، فتذبذب الذرات يولد الطاقة والحرارة، والتداخل بين اغصان الأشجار يسبب لها التماسك، او ربما تمتد وتلتف وتتعشق سيقان النباتات ببعضها لكنها تعطي ثمرا حلو كثمرة البطيخ!
قررت ان تستبدل طريقتها بطريقة أخرى تستمدّها من ابداع الخالق في الخلق والتكوين .. فالدقة والنظام والترتيب موجود في كل شيء خلقه لكن ما يدعمه ويسانده التداخل والالفة والتجمع والاتحاد.
استوعبت أخيرا وبفضل تجاعيد وجهها كيف يجب عليها ان تجعل من تنظيمها وسيلة لنجاح علاقتها بأسرتها وعائلتها لا سببا للتباعد والخلاف.
اضافةتعليق
التعليقات