يقول أحدهم : فقدت فأسي، فإشتبهت بالجار أنه قد سرقه مني، فبدأت أراقبه بإهتمام شديد.. كانت مشيته مشية سارق. وكلامه كلام السارق. حتى حركاته توحي بأنه هو من سرقني. أمضيت تلك الليلة حزينًا ولم أعرف كيف أنام وأنا أفكر بالطريقه التي سأواجهه بها ؟؟
وفي الصباح الباكر عثرتُ على فأسي، لقد كان ولدي الصغير قد وضع فوقه كومة قش، نظرت إلى الجار في اليوم التالي، فلم أجد فيه شيئا يشبه سارق فأسي، لا مشيته، ولا كلامه، ولا إشاراته وجدته كالأبرياء تمامًا، فأدركتُ بأني أنا اللص،
لقد سرقتُ من جاري أمانته وذمته، وسرقتُ من عمري ليلة كاملة أمضيتها ساهرًا أفكر كيف أواجه بالتهمة رجلًا بريئًا منها.
إن هذه العملية وما يشبهها من أهم الأسباب التي تؤدي عادة إلى اختلال اتزان العلاقات الاجتماعية، وهي تلك التصورات التي تبنى على التفسير الخاطئ بين أفراد المجتمع إتجاه مختلف المواقف، وعادة ما تكون هذه التفسيرات بناء على معطيات وهمية تتشكل في لا وعي الإنسان نتيجة الخصائص التي يحملها العقل الباطن في عدم قدرته على التمييز بين ما نتخيله حقيقة وما هو حقيقة أصلا.
لذلك فإن من مميزات الإنسان الأكثر وعيا هو إدراكه لحقيقة أن الظنون تصيب تارة وتخطئ عشرات المرات تبعا لسايكلوجيا عقل الإنسان والطريقة التي يتعامل بها في معالجة المعلومات، فهو بوعيه يمتلك القدرة على إعادة التفكير بشكل مستمر في كل ما يكون متعلقا بالآخرين، وصولا لإلتماس جميل العذر لغيره، فلا يتجه مباشرة نحو الاحتمالات السلبية، قلة هم أولئك الذين يتمتعون بهذه المرونة الفكرية لأن قيود الذهن وأصفاده هي أكبر معيق في تشكيل شخصيات تحمل أفراد مجتمعهم على أنهم مسؤولية شخصية يجب الاعتناء بما تظهر عليه.
أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول: (ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن)، فيا ترى هل تخلو تعاملاتنا ومواقفنا من هذه الظاهرة الفتاكة، فكم من أسرة هدمت وعلاقات خربت وصلات تقطعت بسبب سيناريوهات وتخيلات لا تستند إلى شيء عدا الظنون والأوهام بحجة أن (ظاهر الأمر يبدو كذلك)، حتى أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم بعلمهم ومعارفهم لم تكن أحكامهم و ردودهم ببواطن الأمر إنما كان اعتمادهم على مقتضيات الموقف ودلائله الواضحة .
فقد روي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في واقعة الاحتكام إلى القرآن الكريم في صفين، البعض سمع أن أبا موسى الاشعري قال" كأني به وقد خدع "،
(يقصد بذلك أمير المؤمنين).
فلما سئل الإمام عن ذلك اجاب (أن لو عمل الله في خلقه بعلمه ما احتج عليهم بالرسل)، فكان تعامله حينها قائما على ما يبدو من ظاهر مع علمه ببواطن الأمور إلا أنه أثر بذلك أن يعلمنا انه هو المعصوم وصاحب علم اليقين تعامل بالمعطيات ولم يلجأ لعلمه وما يراه من كوامن الآخرين.
فكيف بنا ونحن قصار الفكر نقوم بما نتوهم ونظن أنه الحقيقة الكاملة، هذا الموقف وغيره من المواقف التي نستلهم منها أن نتوقف عن محاولة الاحتكام إلى ما هو مجهول من كوامن الآخرين ومتعلقاتهم والسعي الحثيث للمحافظة على سلامة الشكل العام للمجتمع من خلال الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يسيء لأحد من الخلق ظلما وبهتانا، وصولا بذلك لتشييد مجتمع يخلو من كثير آثام الظن الواهية وتبعاتها على صحة مجتمعاتنا وتكاملها.
اضافةتعليق
التعليقات