تسيطر علينا قشرة الكبرياء ونتشبث بروح الجاهلية التي لازمتنا منذ الشعور الأول الذي عرفنا فيه أننا أحياء، ربما منذ أول سقوط على الأرض صرخنا فيه بكلمات يجهلها الكبار، ذلك الوقت الذي عرفنا فيه أن الخدش الذي على ركبتينا هو ألم وليس لوناً آخر نكتشفه تواً، كنا ذلك اللطف المفرط الذي سقط عليه سكين جارح فارتطم بالأرض متناثرة شظاياه، ولكنه بقي محافظاً على ماهيته اللطيفة فنطق أنا آسف وأمطرت عيناه.
كلمة (آسف) مصالحة أم حرب؟
مؤخراً أصبحت أنطق كلمة أنا آسف بشكل كبير، لأوقف النزاع الحاصل حولي، ولكن اليوم قرأت جملة استوقفتني" إنني مدينة لنفسي بالاعتذار" توقفت لأفكر في كل المرات التي اعتذرت فيها، ابتدءً من معلمتي على تقصيري في الدرس وانتهاءً بكتف المرأة التي مرت جانبي وفي عجلة مني لم أنتبه فارتطمت بكتفها، ولكن عندما قرأت هذه الجملة مرة أخرى فكرت في كل لحظة ظلمت فيها نفسي، ولم أفكر لحظة في الاعتذار لها، وبعد صمت طويل لم يقطعه سوى صوت تنهيداتي، تناولت القلم وكتبت في منتصف السطر الأول منها: أُدِين بالاعتذار إلى نفسي.
لقد تحملت الكثير من أجل أن أرضي الجميع، وتناسيت مواقف لم يكن مرورها بالهين، وتجاوزت كلمات كانت أشبه بالرصاصات، سلكت دروب الكتمان وتظاهرت باللامبالاة، عن كل مرة كان الانهيار أحد خياراتها، ولكنها آثرت الصمود في الحفاظ على اتزانها وبقائها منتصبة حتى تلك اللحظة التي أكتب إليها الآن، معترفة أن كل انهزاماتي كانت جراء عدم التصالح مع النفس.
ففي هروبي المستمر كانت ثقة لم أمتلكها وفي تنازلي كانت هناك جرأة خشيت اكتسابها، في الوهلة الأولى وقبل أن يخط قلمي شعرت أنني أخوض حرباً في هذا اللحظات فكانت كلماتي مهندمة إلى حد ما.
كلما وددت أن أكتب أخطأت في حقك وجدتني أكتب أنني دوما كنت على حق في معارضتها، فتناسيت لحظة أرسل الله عز وجل إلي ذاك الشعور وكل تلك الرسائل التي تمنعني عن الخطأ ولكنني تجاهلت نفسي وهي ترشدني وكابرت إلا أن أفعل مايمليه علي خاطري، وفي كل مرة كنت أتعثر فيها وأنا أخيل لنفسي ذلك السراب على أنه جسر مشاة وهي تصرخ سيهدم بنا.
كل تلك الأشياء التي استبعدتها في حقيقة الأمر هي الشعلة الأولى للحرب، وكانت ذاتها راية السلام لو استمعت لها في حينها، وبعد أن مررت بكل تلك الهزائهم ظننت أنني لا أستحق الغفران لنفسي لأنها كذبة أخرى ووعد آخر لن أفي به حتى قرأت قولاً لمولاي زين العابدين عليه السلام قال فيه: (لا يعتذر إليك أحد إلا قبلت عذره، وإن علمت إنه كاذب).
فكيف لو كان العذر لنفسك التي تعرّف باعتبارها: الجانب المحرك والموجه والمسؤول عن سلوكايت الإنسان وأفكاره ونزواته وأخلاقه وانفعالاته وتوجهاته خيرا أم شرا، وقد أكد القرآن هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾، وقد قسمت النفس لأنواع ليكون فيها نقيضين إن قام الإنسان بتقويم الأولى توصل للثانية والتي فيها رضا الله والعبد، فالأولى تترنح بين الخير والشر، تغالب شهواتها تارة وتسقط في حمأة المعصية تارة، فصاحبها يستحضر الملامة والحسرة والخشية عقب اقتراف أي ذنب فيتوب ويؤوب، قال تعالى: ﴿وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾.
والأخرى وهي النفس الموحدة التي بلغت من كمال الإيمان ولطائف الإحسان ما جعلها ترتقي في مدارج العرفان، فاطمأنت بوعد الله ورغبت فيما عنده دون سواه، قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)، هنا تبدأ خطواتك الأولى للنضج فما من أحد سعى خلف نفسه وتقويمها وإخراجها من محل اللوم والشك إلى مدارك الرضى إلا نضج، فما الضرر في أننا نقف أمام أنفسنا ونعتذر منها لاتاحة الفرصة للسلام بدل النفور فيما بين أجزاء جسدنا، كما ورد في قوله تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، وكلنا نعلم أن مكانة المتقين لهي أفضل مكانة يصل إليها الإنسان في القرب من ربه ومن كان قريبا من الله وجد السعادة الحقيقية.
وفي المحصلة لا يجوز فهم التصالح مع الذات والاعتذار على أنه توطين النفس على الخطأ والرذيلة وإنما يعني اكتشاف الذات بعمق وفهمها على حقيقتها من غير خداع وتزوير، وإذا حقق الإنسان السلام الداخلي بين متناقضات النفس تمكن من توظيف مواطن قوته كما يتمكن من تدارك مواطن ضعفه، ربما الاعتذار خطوة صغيرة بيد أن هذه الخطوة مهما بدت صغيرة هي خطوة كبيرة لشخص توه يدرك أن السلام مركزه النفس المطمئنة ومن يدري ما الأثر الذي تتركه هذه الخطوة الصغيرة فمثلما جميع الأشجار تبدأ ببذرة وتغدو جذورا هشة ثم أشجارا شامخة يصعب كسرها كذلك هي النفس هشة ما لم يتم تغذيتها بفضل من الله من قبل حامليها، وآخر مايتبادر إلى ذهني هو سؤال فضولي، هل جربت أن تعتذر لنفسك يوما ما عن كل لوم ألقيته عليها بقصد أو دونه؟.
اضافةتعليق
التعليقات