تلقائيا يعيش اليوم معظم الناس رهبة الحياة ما بعد التقاعد، ففكرة أن روتينهم اليومي سيكون خاليا من الاستيقاظ في السابعة صباحا والتوجه إلى مكان العمل وقضاء نصف اليوم في المكتب سيكون شيئا غريبا بالنسبة لهم.
ناهيك عن الثرثرة الصباحية والتماس المباشر مع الموظفين والمراجعين، فإنها تمثل للبعض حياة كاملة.
فهنالك الكثير من الناس يمرون بحالات نفسية صعبة بعد التقاعد ولا يتمكنون من إدارة حياتهم بشكل صحيح، وهنالك النقيض من الذي يتأقلم سريعا ويجد بدائل كثيرة يشغل بها نفسه بعد انتهاء خدمته الوظيفية.
ولمعرفة تفاصيل أكثر حول ما يمر به الناس كان لبشرى حياة لقاءً حواريا مع بعض المتقاعدين وسألناهم فيما لو استطاعوا أن يتأقلموا مع حياتهم بعد التقاعد:
فقال (السيد رشيد جبارـ موظف في دائرة حكومية في بغداد): "لم يكن الأمر صعبا عليّ، فقد كنت أنتظر التقاعد منذ زمن طويل، لأنني تعبت من ممارسة العمل الوظيفي كما أن لدي مهنة حرة وكنت أود أن أضع جل تركيزي بها خصوصا بعد تقدمي في العمر فإن من الصعب على رجل مثلي أن يعمل في مجالين مختلفين".
وقالت (السيدة رجاء الجبوري- مديرة مدرسة متقاعدة): "تقاعدي عن العمل كان أشبه بكابوس، إذ إني لم أطلب إنهاء خدمتي في العمل وبقيت في وظيفتي حتى آخر يوم مسموح لي بذلك، ولكني اضطررت إلى التقاعد بعد تجاوزي العمر المسموح وسوء حالتي الصحية، وبقيت فترات طويلة أعاني من الوحدة والكآبة، وما أصعب الأمر عليّ أكثر هو كوني أرملة وأولادي جميعهم متزوجين خارج البلاد ولا أستطيع اللقاء بهم إلاّ بين فترات زمنية طويلة، الأيام تمر بصورة ثقيلة جدا وأنا وحيدة أنتظر فيها اليوم الذي ألتحق بزوجي فلا شيء أبقى لأجله خصوصا أني لا أستطيع أن أقدم شيئا لنفسي ولا حتى لغيري".
قالت (السيدة زينب محمود الجابري، موظفة في دائرة حكومية): "في البداية كان الأمر صعبا بالنسبة لي، ولكني حاولت التأقلم مع حياتي الجديدة، وشغلت نفسي في هواياتي القديمة كالطبخ والحياكة، وزيارة المراقد الشريفة مع الحملات النسوية، وكذلك زيارة صديقاتي المتقاعدات والمشاركة في الجلسات الدينية التي تقيمها نساء الحي بين فترة وأخرى".
مثلما نرى بأن حياة البعض أصبحت باردة جدا بعد التقاعد وأن العمل سلب منهم الاستقرار والشعور بالذات الذي كانوا يعيشونه وهم يقدمون الخدمة لغيرهم، ولكنها بالطبع ليست نهاية الحياة إذ إن هنالك من استطاع أن يجتاز الأمر من خلال تقبل الواقع وانشغاله بأمور أخرى.
من الجيد أن يتهيأ كل شخص للحياة بعد التقاعد ويفكر بالبدائل التي من الممكن أن تضيف لحياته شيئا من المرح، خصوصا بعد التوقف عن العمل الوظيفي، مثل الانشغال بعمل حر، أو المشاركة للقاءات والزيارات الثقافية التي ربما قد تضيف طابعا جيدا على حياة الانسان، أو التفرغ للعبادات والانشغالات العائلية التي تسرق اليوم بأكمله من حياة الإنسان.
ولمعرفة العلاجات التي من الممكن أن نقدمها لفئة المتقاعدين كان لنا حديث مع الأخصائية الاجتماعية لبنى خليل حيث قالت:
" يعيش الكثير من المسنين رهبة الحياة ما بعد التقاعد، وهذا الأمر بديهي ومتوقع جدا، لأن الانسان في هذه المرحلة العمرية يشعر بالعجز وعدم الفائدة، وأن الدولة تستغني عن خدماته لأنه لم يعد بالمستوى المطلوب.
وهذه الحالة منتشرة بين الفئات الذين ليس لهم فعاليات في المجتمع سواء على الصعيد المهني أو الصعيد الاجتماعي".
وردت "خليل" عن سؤالنا (كيف من الممكن أن يتأقلم الشخص المتقاعد مع حياته الجديدة)؟
"التأقلم ينبع من ذات الشخص نفسه، وهنا الإرادة تلعب دورا كبيرا في تقبل الحياة الجديدة، وهذه بعض النقاط التي من الممكن أن تحدث فارقا في حياة الانسان بعد مرحلة التقاعد:
-مزاولة الأعمال الحرة، أو ممارسة فعاليات ثانية تلهيه في أوقات الفراغ وتصنع للإنسان المتقاعد حياة مهنية جديدة، إذ إن هنالك أعمال ليس لها أعمارا محدودة، فرجال الأعمال والكتّاب والطهاة والفنانين والكثير من الأشخاص الذين أبدعوا في أعمالهم رغم كبر سنهم، لأنهم وجدوا مجالا آخر يتناسب أكثر مع طبيعة أعمارهم وصنعت لهم حياة أفضل.
-ممارسة الرياضة تعيد النشاط والحيوية للإنسان وتشعره بأنه أصغر سنا وأكثر رغبة في الحياة.
-إعادة الحياة للمواهب القديمة والمدفونة تشغل الكثير من وقت الانسان وتصنع له البهجة والمسرة، مثل (الرسم، المطالعة، الكتابة، الصناعات اليدوية، تصليح العطلات في الأجهزة...الخ) إذ إن هنالك الكثير من المواهب التي ركنها الإنسان جانبا بسبب انشغالاته في العمل وقد جاء الوقت المناسب ليعيد لها وله الحياة من خلال إعادة ممارستها والتمتع بها.
-توسيع العلاقات الاجتماعية وإقامة حلقات ثقافية أو دينية يستطيع الإنسان من خلالها المناقشة وطرح آراءه، لأن هذا الأمر يخلق في نفس الإنسان الشعور بأنه كيان مهم ورأيه مستمع ومأخوذ به.
كما أن هنالك واجبات مهمة تجاه الأبناء أو المحيطين بالمتقاعدين وكبار السن يجب مراعاتها من خلال تقديم الرعاية والاهتمام الكامل بهم، واشعارهم بالأولية في الزيارات والاجتماعات العائلية واعطائهم الأهمية المطلقة في كل الجوانب، وإبراز الاهتمام والاستماع الكامل لحديثهم، وعدم التصرف بطريقة تبين عجزهم أو عدم فائدتهم.
وتشجيعهم على ممارسة عادات جديدة أو اعمال بسيطة لا تطلب مجهودا يشغلون بها أوقات فراغهم.
بالنهاية التقاعد هو مرحلة مهنية مفروضة على الإنسان يجب أن يتقبله ويحاول التعايش معه إذ إن أهمية الإنسان تكمن في جوهر الإنسان وأهدافه، وليس في الساعات التي يقضيها خلف المكتب، فالإنسان العظيم يبقى عظيما ما دام استطاع أن يقدم لنفسه ولمجتمعه عملا مفيدا.
اضافةتعليق
التعليقات