قليلٌ جداً من يساوي في تركيزه وفهمه بين الآية الكريمة: "فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ" وبين الآية التي تليها مباشرةً دون أي فاصل "فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً". وقليل منا من يُبصر أبعاداً أخرى لهذه الآية تختلف عن مسألة الزواج والعدل فيه، حيث يمكن رؤية الأمر من جوانب أخرى مختلفة.(1)
إننا بطبيعتنا البشرية حينما نفقد زمام التحكم بأنفسنا، فإننا مجبولين على الأخذ بما نهوى، الأسهل، الأيسر، والأكثر وِفرةً وسهولة. فعلى سبيل المثال إننا لا نركز كثيراً على التحذير الموضوع على علبة السجائر، لأن هدفنا هو الحصول على لذة التدخين، لا نهتم كثيراً بمضار منتجات تصفيف الشعر، لأن هدفنا هو الحصول على شعرٍ مالسٍ لامع، ولا نتذكر كمية الزيوت والسكريات في الوجبات السريعة لإننا لا نريد أن نعكر لذتها... وهلُم جراً في كثير من الأمثلة الأخرى.
التأمل في هذه الآية الكريمة يفتحُ لنا أبعاداً أعمق مما يتعلق بمسألة العدل في الزواج وحكمة التعدد فقط، بل العدل في كل تفصيل من تفاصيل حياتنا وكلُ ما يمر بنا في تعاملاتنا البشرية، علاقاتنا مع الآخرين، بل وحتى العدل مع ذواتنا التي لها علينا حقوق نحنُ أولى بتوفيرها لها.
الإنصاف هو أن نعرف الهدف المنشود من السعي، وأن نعلم عواقبه. هل لو حصلنا على الشيء الفلاني فإننا لن نترك خلفنا آثاراً جانبية أخرى؟ هل نتلذذ بالأكلة هذه أو تلك ونتجاهل أنها اُشتريت بمالٍ حرام أو أنها مضرة بصحتنا؟ أم هل نُبيح لأنفسنا حراماً لأن أنفسنا تميلُ إليه؟ وهكذا دواليك. سلسلة لا متناهية من الأهداف التي تتعارض مع منطق العدل الذي أرساه الله في الفطرة السليمة والبصيرة المستنيرة بنور عدله وحكمته.
لذا فالموازنة بين العقل والقلب هي حالةٌ من الصِراع الدائم، فلا تتفق رغبة القلب مع رجاحة العقل في كثير من الأمور، وهنا مكمن النِزاع، فالعقلُ إما ينساق وراء الهوى، فيقودُ صاحبه إلى الهلاك، وإما يخضع لمنطق العدل الذاتيّ الفطري، فيسمو بصاحبه نحو العُلا.
لكلٍ منا بوصلة فطرية تُرشده للصواب، وميزانُ عدلٍ إلهيّ يجعلنا نوازن كل شيء في كفتيّن متساويتين، فلا نؤثر هذا، ولا نهمل ذاك. إن الاهتمام بما يحتاجه كلٌ من العقل والقلب دون تفضيل للهوى أو تسلّط مُطلق للعقل، لهو إحدى أهم تجلّيات العدل التي نغفل عنها كثيراً والتي من شأن مراعاتها من عدمه أن تهوي بنا إلى مراتب دُنيا، أو ترفعنا لما يرتضيه الخالق، فإما أن نميلُ كُل الميل فنذرُها كالمعلّقة، وإما أن تعدلوا فهو خيرٌ لكم.
اضافةتعليق
التعليقات