منذُ أن تشرفت الأرضُ باحتواء مولاتنا فاطمة (عليها السلام) ومعرفةِ العالمينَ بها حتى صار العَالِم والفيلسوف والباحث والمؤرخ والشاعر والراوي يتسابقون فيما بينهم لمعرفة هذه الشخصية العظيمة وما تحويه من أسرارٍ عجيبة من علم وبلاغة وفصاحة وكيفية إدارة حياتها وترتيب وقتها حتى انتجوا مؤلفاتِ قَيّمة ومجلداتٍ ضخمة وكل هذا لم يبلغوا معشارَ ما أنزلهُ واودعهُ الله سبحانه في مكنونها من عظيمِ خَلقِها وسر وجودها..
وبدوري كسائرِ من تشرف في الكتابةِ، فإني في هذا المقال لا أقدمُ بحثاً غايتهِ التعريف بقدرِ ما هو بحثاً غايتهُ العروج نحو دواخلِ هذه الروح والغوص في أعماقِ أسرارها لعلنا نلمحُ من وراءِ حجاب ما يكشفُ لنا ولو بالشيء اليسير من خبايا مكنونها وعبقِ شذاها من أسلوب حياتها الذي كانت تتبعه في ادارتها للوقت وتقسيم الواجبات ما بين الحقوق الزوجية وحقوق العبادة وحقوق الأبناء وحق العلم والذي على كل أم وكل زوجة صالحة ومربية فاضلة ترغبُ في جعلِ بيتها سعيداً أن تسلك منهـاج من تسجد الأقلامُ لأجلِها عليها السلام.
روي في الأحاديث القدسية (والتي نقفُ على إثرها تمعناً في كلماتها) لخطابٍ بين الله تعالى ونبيهِ الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم: " لولاكَ لما خلقتُ الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما". وفي حديثٍ للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأقتبسُ منه أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) "حبل الله الممدود بينه وبينه خلقه". وفي الدعاء المأثور الذي يتضمن التوسلُ بها ختاماً به "والسر المستودعِ فيها"، كلها أحاديث أثارت فيَّ العجب والتساؤلات ومن جملةِ ما استنبطتهُ منها من اجاباتٍ من خلالِ التفكر والتعمق بما ورد هو عدة أوجه منها:
1- على وجه الخصوص هو أن الله سبحانه وتعالى حين خلقها بأبي وأمي أراد أن يبين لسائر خلقهِ عظمة فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى حدٍ ذكر بأن لولاها لمَ خُلِق هذا الكون بأكمله ولَم خَلقَ آل بيتِ النبوة أجمعين وأن هذا من شأنهِ يدلُ على أن من أراد أن يعرف عظمتهِ عز وجل عليه أن يعرف ويتعرف على فاطمة (عليها السلام) أولاً، ليُدرك عظمتهِ والأمر سيان فمن أراد أن يعرف معجزات الله وعجائب خلقهِ قد تجسد في شخصية الزهراء (عليها السلام). وبالتالي سنعرف عظيم خلقه وعجائب ملكوته الذي صُور في وجودها وهي من جعلها الله تعالى مستودع سرهِ الذي يضم فيه كل أسرار هذا الكون الهائل العجيب بعلمهِ ومعرفته وخفايا باطنه وكيفية خلقه ومختلف عوالمه وكل ما خفي وظهر وما يدركهُ ولا يدركه الحس.
2- على وجه العموم أنه عز وجل بخلقهِ لمولاتنا الزهراء (عليها السلام) أراد أن يبين عدة أمور أهما:
_ مدى قدسية المرأة ومكانتها الجليلة التي يستصغرها من صغار العقول بل ويستعر ويسود وجههُ لو بشروه بالأنثى. فلو تأملنا قليلاً لرأينا أن نبي الأمة قد بشره الله سبحانه بأنثى فغدت سيدة العالمين بأسره وليس فقط سيدة النساء بل سيدة على الرجالِ أيضاً. وزوجةُ عمران "حَنَّة" حين نذرت ما في بطنها لأجلِ الله تعالى، بشرها بأنثى ألا وهي السيدة مريم (عليها السلام).
_ إن الأفلاك التي خلق منها محمد وآلِ محمد ابتدأ بخلقِ فاطمة (عليها السلام) وهذا فيه دلالة على أن الأنثى هي المسؤولة عن ولادة الحياة وأنها هي الأم، فكل أنثى هي مشروع أم سواء كانت أخت أو بنت أو زوجة وخير مثال هو من نكتبُ عنها حين سُميت بأمُ أبيها. فهي التي احتوت أباها من بعدِ أمها الجليلة، رغم صُغرِ سِنها، وهي الطفلة التي كانت تدافع عن أبيها حين كان أطفال القوم الأعداء يرمون عليه بالفضلات وما شابه حين يُصلي، وهي من كان يأنسُ بها ويرمي بحملهِ عليها، وهذا يجب أن لا يخفي مثل هذا الأمر على كل مسلم إذ العجب كل العجب أن نرى من يهين انثاه أو يضربها أو يقلل منها.
3- من أراد التقرب إلى الله سبحانه عليه أن يتمسك بفاطمة ويستعن بفاطمة ويتوسل بفاطمة.
أما فيما يخص الجانب التربوي، والذي لا يقتصر فقط على الأمهات اتباعه بل على الرجال أيضاً، هو كيفية تعاملها مع أولادها، على سبيل المثال في دعاء حديث الكساء المروي عن الصحابي جابر الأنصاري، نلاحظ أسلوبها في الكلام والرد على كل فرد من أفراد أسرتها العظيمة.
الجانب الأول هو حين دخل الإمام الحسن عليه السلام ابتدأ بالسلامِ عليها فكان ردها (وعليكَ السلامُ يا ولدي ويا قرةَ عيني وثمرة فؤادي) وحين أتى من بعدهِ أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) وسلم أيضاً ردت عليه بنفس الرد وبنفس الكلمات التي تحمل ذات المشاعر وحتماً بنفس النبرة الحانية وهذا فيه درسٌ لنا حول كيفية انتقاء الكلمة واختيار الألفاظ التي نخاطب بها أولادنا إلى حد لا يكون هناك تفرقة بينهم حتى في الكلمة: أما الأسلوب الكلامي فإن من باب تأثير الكلمة على النفس والتي أُلفت كتباً كثيرة وأُجريت دراسات وأبحاث حول معرفة تأثيرها، لكني أقولها من حيث تأثيرها على ذاتي من يدري، فقد لا تنطبق نتائج هذه الدراسات علينا جميعاً.
أدركتُ عند سماعي لأي كلمة تقال الحديث الذي يشيد بأن الكلمة الطيبة صدقة، تزرع الثقة في النفس والبهجة على الروح وتزيد من طاقة البدن وعلى العكس الكلام الخشن والأسلوب الفظ في الكلام يذيب الروح ويذبل الجسد ويطفأ النفس ولهذا فإن الكلام الحسن وانتقاء المفردات مهم جداً في تربية الأبناء وعدم التفرقة بينهم حتى في الكلام.
أما الجانب الثاني حين سأل الإمام الحسين (عليه السلام) عن سر الرائحة الطيبة أجابتهُ (عليها السلام) نعم "إن جـدك و(أخاكَ) تحت الكساء"، لم تقل نعم إن جدك والحسن، بل استخدمت لفظة "أخاك" وهذا جانبٌ مهم أيضاً أن نكثر من هذه المفردة على مسامع الإبن "أخاك، أخوك، أخيك". فمن هذا المشهد العظيم نستلهم منها هذا الهدوء العظيم في التعامل والاحترام الجل لأبنائها. حتماً فإذا كان ربُّ الأسرةِ هذه طباعه من حيث التصرف والسلوك المحترم الهادئ والمفردات العميقة التي تعزز الثقة بالنفس فكيف لا تكونُ الذرية ذات حنكة وشخصية فذة.
صورة أخرى تثير العجب وتريح الروح هو المأوى الذي تديره فاطمةُ الزهراء (عليها السلام), فمن كان مهرها بسيطاً بحسب الروايات التي تقول أن مهرها كان (480 درهم) وقيل (500 درهم) أما الجهاز فكان عبارة عن قميص وخمار وقطيفة سوداء خيبرية وسرير وستر من صوف وقربة صغيرة من الماء وعباءة... الخ من الخزف، حتماً فإن البيت يكون بسيطاً لكن كلما تواضع المرء كلما علا شأنه فقد يكون البيتِ كالقصور لكن داخله كالقبور لا حياة ولا روح فيها، لا أمان ولا ألفة وهذا بدوره درسٌ آخر قدمتهُ مولاتنا الزهراء (عليها السلام). أن الزوجة هي المسؤولة عن جعل البيت جنة أم جحيم فهي التي باستقبالها لزوجها وحنانٍ شخصها جعل أمير الكلام بمجردِ رؤيتها تتجلى عنه همومه وصارت أماً لأبيها وهي فتاة ذاتُ الثمانية عشرة عام, فهي نموذج لصفات الزوجة المثالية التي يطمح لها كل من يرغب في العيش الرغيد. فالزوجة المثالية هي التي كانت تحرص على أن تبدو نظيفة في نفسها وبيتها وهي التي لا تثقل على الزوجِ بطلباتها وتطيعهُ فيما يأمرها إلا إذا كان أمراً ينافي ما يأمر الله تعالى به.
وختاماً للموضوع الذي لم ينل حقهُ، هو أن مولاتنا الزهراء (عليها السلام) لم تتوانى ولو لثانية واحدة عن تقديم هذه الرسالة العظيمة التي أوكلها الله إليها من حيث طاعته والقيام بعبادتهِ التي كانت تتورم قدماها. وهي التي يأنس بها كلٌ من زوجها وأبيها وحتى أمها السيدة خديجة الكبرى (عليها السلام) حين كانت حاملاً بها. حيث كانت (عليها السلام) تُحدثها في بطنها وتسليها حين كانت محزونة ومهمومة ولهذا سُميت (المُحدِّثة) بكسر الدال. أما تسميتها (بالمُحدَثة) بفتح الدال هو لأن الملائكة كانت تحدثها وتنقل إليها أخبار أبيها الحبيب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولهذا قد كتبت كل هذه الأحاديث والمواقف التي جرت معها ومع الملائكة التي كانت تخاطبها في كتابٍ وإن هذا الكتاب تم تداوله بين الأئمة الإثنى عشر وهو الآن عند صاحب العصر والزمان (عج).
والسلامُ على العالمة غير المعلمة والطاهرة المطهرة والسر الذي لم ولن يعُرف شأنه غير الذي خلقه ووضعه ومن لهم شأنٌ في ذلك.
اضافةتعليق
التعليقات