سنة بعد أخرى تتسارع الأيام ينتهي ظلام وتُشرق الشمس مرة أخرى ولا يعلم أحد متى يأفل نجمه وتغيب شمسه، أقوامٌ رحلت أعوام تصرمت، منهم من ترك أثره وتأثيره فخلد ذكره ومنهم من رحل وغاب دون شيءٍ يُذكر فقضى عمره هباءً، ولم يخلق تعالى الخلق إلا ليعملوا ويؤثروا ولم يجعل وجودهم عبثا، بل وهب لكل فرد قوة وعقلاً يسير بهما لتكن حياته ذات معنى، ولم يُضيع سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي سلطان المؤلفين سنين عمره ولم يرض بأن تكون حياته بلا معنى أو يكون رقماً عابراً بل إنه قضى أيام عمره مجتهداً عاملاً يسعى ويتحمل ويعطي فترك أثره البالغ في النفوس وترك إرثاً نافعاً كبيراً بكمية مؤلفاته التي وصلت رقماً لا يصله أياً كان فلُقبَ على إثر ذلك بسلطان المؤلفين..
وفي إحدى مؤلفاته تحدث عن موضوع مهم ألا وهو الحرية الإسلامية حيث بينها وبيّن شروطها فوضح بدايةً تأثير دور الفرد وموقف الإسلام من الحرية:
"زوّد الله الإنسان بآلات وملكات.. وجعل في متناوله الكون الرحب، بما فيه من صنوف الحيوان.. وألوان الأشجار والأعشاب.. ومختلف البحار والأنهار.. وأقسام المعادن والركائز.. وجعل لكل حركة من حركاته.. وملكة من ملكاته.. حدودًا معينة، لا يتعداها إلا النادر، ويبلغ الإنسان إليها إذا توفرت لديه الحريات الكافية، وساعده المجتمع والحظ، وتكاملت عنده الشرائط والمقتضيات وعند هذه المؤهلات تنمو الحياة، وتزدهر الحضارات، ويصل رقي الفرد والمجتمع إلى آخر مدى إمكانه، وبالعكس لو اختلت الشروط، وانعدمت المؤهلات.. فإن الحياة تذبل وتذهب بهجتها.. إلى أن تصل إلى مادة جوفاء، لا حس فيها ولا حراك..
لكن: كثيرا ًما تصطدم الحريات بعضها مع بعض وذلك يسبب الفساد والخبال، وإفناء الطاقات وإعدام المؤهلات.. شأن كل حركة وامتداد، أرأيت الطائرة المزودة بقوة الجري الهائلة؟ إنها مثال للحرية.. فلو لم تزود الطائرة بالأجهزة والآلات.. والدهون والزيوت.. لم تطر وكانت قطعة جامدة من الحديد.! ولو طارت بغير مقياس وهدى اصطدمت بالعمارات، واحترقت وهدمت الأبنية.
وعلى هذا، فمن اللازم إطلاق الحريات، وتوفير شرائطها من ناحية.. وتحديدها بحدود الصلاح والحكمة، من ناحية أخرى.. وهذا هو شأن القيادة الصحيحة للفرد والجماعة، وقد لاحظ الإسلام الناحيتين، ووضع الخطط العامة، للسير بالبشرية نحو التقدم والرقي، بدقة وإتقان..
ليس هذا فحسب.. بل وقف من الحريات موقف المدافع المحامي، حتى أن كل جمود وقصور- في نظر الإسلام- محظور، وكل تعدي وتجاوز حرام.. ومن أراد الزيغ والتحوير، فالإسلام له بالمرصاد".
وأوضح حدود الحرية أيضاً من خلال:
"الحرية المسؤولة: ليس معنى الحرية الفوضى في النظام أو في القائمين بالنظام، كما وجدناها في أول الانقلابات التي حدثت في مصر والعراق وباقي البلدان، فإن الناس أخذوا يعملون ما يشاءون فصارت الأمور فوضوية، كما أن الحكومات الانقلابية جاءت بأناس لا خبرة لهم إطلاقا، بل ولا علم لهم أحيانا إلى المراكز الحساسة في الدولة، مما سبب تبعثر الأمور والخبال والفساد غير المتصور.
بل الحرية معناها إطلاق تصرف الناس في إطار المعقول فاللازم جعل إطار للحريات، وليس ذلك بمعنى الكبت بل بمعنى أن لا يضر الإنسان نفسه ولا غيره، فمثلا الزراعة والتجارة والحيازة والصناعة حرة، لكن اللازم أن لا يزرع الزارع الحشيش الضار، ولا يتاجر التاجر بما يوجب الغش والاحتكار والربا والأمور الضارة، ولا يحوز الحائز حق الآخرين، مثلا هناك مائة صياد كل صياد يصيد من البحر عشر كيلوات من السمك لقوته وقوت عائلته عينا أو ثمنا فلا يحق لأحدهم أن يصيد حصة الآخرين، حتى يبقى أولئك بلا طعام، الاستيراد حر والتصدير حر بما لا يوجب البطالة في الأول.
حيث لا يجد عمال البلد عمل بعد توفر البضاعة الأجنبية في الأسواق مما تغني عن البضاعة الوطنية، ولا العوز في الثاني حتى لا يجد أهل البلد قوتهم لأن المصدر أخرجه إلى الأجانب رجاء مزيد الربح، وهكذا حال الصناعة وغيرها.
والخط الفاصل بين الكبت والمسؤولية دقيق يجب أن تتظافر جهود المخلصين من علماء الإسلام الوعاة أهل الاختصاص من الدكاترة والمهندسين ونحوهم في صب الصيغة الملائمة المحددة بين (يضع عنهم أصرهم) وبين لا ضرر ولا ضرار.
أما الدوائر فاللازم أن تكون وسطا بين التفريط والإفراط، فلا تضخم في الموظفين مما يفوق ضروري الاحتياج- كما هو الحال في كل بلادنا، حيث مشوا وراء الغرب والشرق من غير هدى- ولا تقصير في القدر المحتاج إليه.
وحيث إن الحريات في الإسلام كثيرة جدا فالقدر المحتاج إليه من الموظفين أقل من عشر الموظفين في الحال الحاضر، إن كثرة الموظفين أملتها على حكام بلاد الإسلام الجهل والغرور والأنانية والتقليد، فإذا أخذ الإسلام بالزمام، وشكلت لجان من كلتا الطائفتين من المثقفين الزمنيّين والإسلاميين لا بد وأن توضع الأمور في نصابها فالأعمال تكون بيد الناس إطلاقًا إلا ما خرج.
فالمطارات، والقطارات، والسيارات، والمستشفيات والمصارف، ومعاهد العلم، وغيرها تكون بيد الناس والدولة مشرفة فقط في عدم الإجحاف إلى غير ذلك من أسباب قلة الموظفين. هذا من ناحية الكم..
أما الكيف، فلا بد للموظف من العلم والخبروية الحاصلة بالممارسة والتدرج في الرقي، مثلا من مدير الناحية الصغيرة، إلى الناحية الكبيرة إلى ما دون المحافظة إلى المحافظة الصغيرة ثم الكبيرة، إلى الوزارة وهكذا
يضاف إليهما الأخلاق والإيمان والرقابة، بدون تدخل المحسوبية والمنسوبية، لا يقال: كيف بالخبروية والرقابة مع العلم أن الحكومة الإسلامية التي تأتي جديدة لا تدرج فيها بعد والرقابة غير ممكنة من الأكبر من الموظف لأنه نصبه ولا ممن دونه لأنه منصوب منه فلا يجرؤ على محاسبة رئيسه!. لأنه يقال: الخبروية حصلت من طول استمرار خدمة الموظف في الحركة، مما يعادل طول خدمته في التدرج، بالإضافة إلى إمكان استخدام الموظفين السابقين ذوي الماضي الحسن، أما الرقابة فإنها تحصل من القوى المقابلة للقوى الحاكمة، حيث فرضنا في فصل سابق لزوم الأحزاب الحرة الإسلامية، فحكومة الظل تراقب حكومة النور، وبذلك أما تتم الأمور الثلاثة: المؤهلات الذاتية، الخبروية الزمنية، والرقابة الاجتماعية",
وختم سماحة المرجع (قدس) كتابه ببيان حرية المعارضة:
"فلا يحق للحاكم مهما كان أن يكبت المعارضة بل أن يسجنها أو يفرق المظاهرة بالرصاص كما هي عادة حكام بلاد الإسلام اليوم فإن ذلك بالإضافة إلى كونه خلاف السيرة- على ما عرفت- وخلاف العقل والمنطق ويوجب كراهة الناس للحاكم مما ينتهي إلى سقوطه وأن تسود صفحته في التاريخ كما اسودت تواريخ بني أمية وبني العباس والعثمانيين ومن إليهم من الحكام المستبدين".
وهذه مقتبسات قليلة من مؤلف واحد تكون من أكثر من 100 صفحة تحدث به عن حقٍ مشروع لو طُبق لتحسنت أحوال الناس..
هكذا اختار لنفسه أن يُخلد بكنوز معرفة تركها للأجيال..
اضافةتعليق
التعليقات