الفقر أكثر من مجرد الافتقار إلى الدخل أو الموارد أو ضمان مصدر رزق مستدام، حيث إن مظاهره تشمل الجوع وسوء التغذية وانحسار إمكانية الحصول على التعليم والخدمات الأساسية، إضافة إلى التمييز الاجتماعي والاستبعاد من المجتمع وانعدام فرص المشاركة في اتخاذ القرارات.
واليوم يعيش أكثر من 780 مليون شخص تحت خط الفقر الدولي، 11٪ منهم يعيشون في فقر مدقع ويكافحون من أجل تلبية أدنى الاحتياجات الأساسية كالصحة والتعليم والمياه والصرف الصحي. وتعيش 122 امرأة تتراوح أعمارهن بين 25 و34 سنة في فقر مقابل كل 100 رجل من نفس الفئة العمرية، وأكثر من 160 مليون طفل معرضون لخطر الاستمرار في العيش في فقر مدقع بحلول عام 2030.
الفقر بالأرقام
تبلغ ثروة ثلاثة من أغنى أغنياء العالم ما يعادل الناتج المحلي لأفقر 48 دولة، كما أن ثروة 200 من أغنى أغنياء العالم تتجاوز نسبتها دخل 41% من سكان العالم مجتمعين.
لقد دأبت منظمة الأمم المتحدة كل سنة على نشر الكثير من الأرقام التي سأوجز بعضها قبل الدخول في الحقائق التي تدين "جزيرة الأغنياء" أو الدول الأكثر غنى في العالم، والتي تحملها جزءا كبيرا من المسؤولية عن حالة الفقر التي تسود كوكب الأرض والتي تعطي فكرة عن حجم الأزمة التي تقترب كل يوم من حدود الكارثة.
- يعيش فوق كوكب الأرض 6 مليارات من البشر يبلغ عدد سكان الدول النامية منها 4.3 مليارات، يعيش منها ما يقارب 3 مليارات تحت خط الفقر وهو دولاران أميركيان في اليوم، ومن بين هؤلاء هنالك 1.2 مليار يحصلون على أقل من دولار واحد يوميا.
- وفي المقابل توضح الإحصاءات الغربية بالأرقام أن الدول الصناعية تملك 97% من الامتيازات العالمية كافة، وأن الشركات الدولية عابرة القارات تملك 90% من امتيازات التقنية والإنتاج والتسويق، وأن أكثر من 80% من أرباح إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في البلدان النامية يذهب إلى 20 دولة غنية.
- وفي البلدان النامية نجد أن نسبة 33.3% ليس لديهم مياه شرب آمنة أو معقمة صالحة للشرب والاستعمال، و25% يفتقرون للسكن اللائق، و20% يفتقرون لأبسط الخدمات الصحية الاعتيادية، و20% من الأطفال لا يصلون لأكثر من الصف الخامس الابتدائي، و20% من الطلبة يعانون من سوء ونقص التغذية.
- وفي المقابل تبلغ ثروة ثلاثة من أغنى أغنياء العالم ما يعادل الناتج المحلي لأفقر 48 دولة في العالم، كما أن ثروة 200 من أغنى أغنياء العالم تتجاوز نسبتها دخل 41% من سكان العالم مجتمعين. وتوضح الدراسات أنهم لو ساهموا بـ 1% من هذه الثروات لغطت تكلفة الدراسة الابتدائية لكل الأطفال في العالم النامي.
- وبينما يموت 35 ألف طفل يوميا بسبب الجوع والمرض ويقضي خمس سكان البلدان النامية بقية اليوم وهم يتضورون جوعا، تقل المساعدات المخصصة للدول الفقيرة عن طريق منظمة الأمم المتحدة عما تنفقه تسعة من البلدان المتقدمة على غذاء القطط والكلاب في ستة أيام فقط.
- وتبرز كل هذه الأرقام الخلل الكبير الحاصل في تمركز رأس المال العالمي، وهو خلل لا يمكن تجاهل تفاعلاته السلبية وما يترتب عليها من آثار وخيمة على البشرية، كما توضح ما آل إليه حال الإنسانية في التغاضي عن هذه الفضيحة الأخلاقية التي تهدد على نحو خطير السلام الاجتماعي.
لكن الأخطر من كل ذلك هو ما تشير إليه البحوث والدراسات وصيحات الخبراء التي تضيع وسط الصرخات الأعلى، حيث يؤكد هؤلاء أن وضع الفقراء اليوم يرجع لأسباب كثيرة لا تتمثل فقط فيما ترزح تحته الدول النامية من جهل وتخلف وغياب للديمقراطية التي تمثل سيادتها الجو المناسب لتصميم الحلول وتطبيقها، لكن الدول المتقدمة أو الدول الأغنى تتحمل الجزء الأكبر من تلك المسؤولية. ويؤكد هؤلاء أن هذه الأسباب حولت الوضع الاقتصادي العالمي إلى مصب سحيق تجري فيه ثروات العالم إلى جيوب الأغنياء ليزدادوا غنى، وإن الوضع بلغ حدا من الخطورة تصعب معه الحلول الرامية إلى الحد من هذا الانحدار وبقاء النزر اليسير من هذه الأموال في جيوب الفقراء الذين يزدادون فقرا.
أسباب الفقر في العالم
وتلخص تلك الدراسات إلى أن من أبرز أسباب الفقر اليوم في العالم:
1 ـ ظاهرة العولمة: ففي الوقت الذي رفعت الدول الغربية شعار العولمة مبشرة بعهد جديد يخفف من معاناة الفقراء، ارتفعت الأصوات منذرة بدور هذه الظاهرة في نشر الفقر وتدمير اقتصاد الدول النامية. والكلام هنا ليس لمعارضي العولمة ولا لعامة الخلق الذين يرددون الشعارات الكلامية بل للخبراء والمختصين.
فهذا جورج سروس أحد أقطاب الاقتصاد العالمي الجديد يقول "لقد أدت العولمة إلى انتقال رؤوس الأموال من الأطراف (ويعني البلدان النامية) إلى المركز أي الدول الغربية "، وهذا يعني باختصار أن العولمة حولت فتات ما كان يقتات عليه الفقراء إلى موائد المتخمين.
ويقول جون ستجلتيز الخبير الاقتصادي السابق في البنك الدولي "إن الدول الآسيوية القليلة التي انتفعت من العولمة هي تلك التي أدارت العولمة بطريقتها، أما البلدان التي تضررت وهي الغالبية فهي التي أخضعت نفسها لأحكام الشركات الكبرى والمنظمات الاقتصادية الدولية وهي المؤسسات المؤيدة للعولمة".
ويتفق مع هذه المقولة كون الأزمة المالية التي وقعت في شرق آسيا عامي 97 و98، والتي كانت من أولى نتائج ظاهرة العولمة، أدت إلى عواقب اجتماعية مدمرة.
ففي إندونيسيا حيث انخفض عدد الفقراء من 58 مليون نسمة إلى 22 مليونا فيما بين 1970 ـ 1995، أدت الأزمات المالية إلى زيادة مهولة في عدد السكان الذين يعيشون في حالة من الفقر، حيث وصلوا إلى حوالي 36 مليونا. لكن الصين التي ظلت متحفظة على ظاهرة العولمة، استطاعت أن تبقى في منأى عن الأزمة، وحافظت على نموها الاقتصادي مما ساعد على تقليص عدد سكان المناطق الريفية من 280 مليون نسمة سنة 1990 إلى 75 مليونا عام 1999.
العقوبات الاقتصادية وغزو واحتلال الدول لملاحقة المارقين، كلها أمور أدت إلى تفاقم مشكلة الفقر وحولت شعوبا كانت في الأصل غنية إلى حالة من الفقر الشديد
ومن أسوأ نتائج سياسة العولمة التغيرات الكبيرة التي قوضت التنمية الاجتماعية، ومن أمثلتها ما حصل في أوروبا الشرقية ووسط آسيا، حيث قامت المؤسسات العتيقة للاقتصاد ذات التخطيط المركزي -التي كانت توفر في السابق الرعاية الصحية طوال العمر- بإنشاء مؤسسات جديدة أكثر ملاءمة للسوق الحرة، وأدى الانخفاض الكبير في الأجور الفعلية المترتب على ذلك والذي وصل إلى 77% في أذربيجان على سبيل المثال إلى زيادة كبيرة في معدلات الفقر في تلك البلدان، وأصبحت نسبة 32% من السكان في تلك المناطق تعيش الآن في حالة من الفقر بعد أن كانت 4% فقط عام 1988.
2 ـ تجاهل الدول الصناعية الكبرى لظاهرة الاحتباس الحراري: حيث لا تزال الدول الأغنى في العالم تمتنع عن توقيع أية اتفاقيات للحد من انبعاث الغازات السامة من مصانع التكنولوجيا التي تمتلكها، ويدق الخبراء في هذا المجال ناقوس الخطر ويعلنون أنه إذا لم تبذل جهود كبيرة في هذا المجال فإن كوكب الأرض ربما يصاب بشيخوخة مبكرة نتيجة لظاهرة الاحتباس الحراري الناجم عن تضرر طبقة الأوزون.
وتأتي النتائج مروعة على لسان علماء المناخ حيث إنهم يؤكدون أن الكوارث الطبيعية التي تلحق بالكوكب اليوم ما هي إلا نتيجة من نتائج استهتار الدول الصناعية وعدم مبالاتها، ومن ضمن هذه الكوارث: الزلازل والأعاصير والفيضانات والجفاف والتصحر، وكلها ظواهر تؤدي إلى إفقار الشعوب وتشريدها.
3 ـ هيمنة القطب الواحد: منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وإمساك الولايات المتحدة الأميركية -الرقم واحد على لائحة الدول الغنية- بقيادة العالم تفاقمت معضلة الفقر، فالسعي إلى تأكد السيطرة على العالم وبسط النفوذ قادا في كثير من الأحيان إلى إفقار الدول أثناء ترويضها.
فالعقوبات الاقتصادية، وغزو واحتلال الدول لملاحقة المارقين، وتأييد سياسة الاحتلال سعيا وراء السيطرة على المواقع الإستراتيجية في العالم، كلها أمور أدت إلى تفاقم مشكلة الفقر وحولت شعوبا كانت في الأصل غنية إلى حالة من الفقر الشديد.
ففي فلسطين وليبيا والعراق كانت الشعوب المتضرر الأول من هذه السياسات، وفي أفغانستان تردت الأوضاع التي لم تكن بالجيدة أصلا إلى درجة تصل إلى حد الكارثة الإنسانية. ويشير المراقبون إلى أن الوضع مهدد بالتردي وقائمة الدول مرشحة للزيادة إذا لم ترتدع الأطماع السياسية أو يتحرك العالم لكبح جماح القطب الواحد الساعي للسيطرة على العالم.
4 ـ نتائج وتبعات عهود الاستعمار: حيث يشير المهتمون بظاهرة الفقر في العالم إلى أن السبب الذي جعل كل ما سبق يصل بالشعوب إلى حافة الهاوية هو أن هذه الشعوب كانت قد استنزفت خيراتها خلال عقود من الاستعمار تعرضت فيها لنهب جل ممتلكاتها.
ورغم مناداة الدول الغربية بالعدالة واحترام حقوق الإنسان التي من أهمها احترام الممتلكات، فلم يسمع صوت واحد يطالب بدفع تعويضات لهذه الدول التي تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لما هو لها، ويعيدون السبب إلى شدة ضعف الضعيف وقوة القوي.
حلول قاصرة وعاجزة
ما لم تسارع الدول الغنية إلى إيجاد حل لمشكلة الفقر ستجد نفسها عاجزة عن حماية جزيرتها المتخمة بالخيرات من الأمواج المتدفقة من البحار المحيطة.
ومع الحقائق البارزة للوضع الذي يعيشه العالم ورغم الأسباب السابقة وغيرها والتي تحمل الدول الغنية مسؤولية كبيرة في فقر الشعوب، فقد ظل الالتزام السياسي غائبا. وتكرر غياب زعماء القوى السياسية الكبرى عن المناسبات التي تهتم بهذه الأزمة، ولم يتجاوز إعلان المؤسسات المالية المتحكمة في اقتصاد العالم عن تصميم البرامج الرامية إلى الحد من الفقر وتطبيقها الاستهلاك الدعائي لإخفاء حقيقة أهدافها التجارية.
واقتصرت الحلول إبان الأزمات الكبرى التي يسببها الفقر على تقديم الغذاء والخيام والإسعافات الأولية دون السعي إلى تقديم حلول طويلة الأمد، رغم تكرار المختصين بأن الحل لا يكمن في تقديم القوت للجياع بل يجب القضاء على الأسباب الكامنة وراء الفقر في مختلف أنحاء العالم بصورة سريعة ومستديمة ومتواصلة.
وكرد فعل على ظاهرة عدم المبالاة تلك ازداد وعي المجتمع المدني في العالم بالمشكلة زيادة تشكل بارقة أمل تلوح في الأفق، وقد تولد عن هذا الوعي التزايد المستمر لظهور الكثير من التكتلات والأحزاب والجماعات المناهضة للظواهر المتعلقة بمشكلة الفقر في العالم مثل العولمة وتدمير البيئة وخرق حقوق الإنسان.
وحتى تحرك ساكنا تبقى الدول الغنية في غفلتها عن الظواهر الجديدة الناتجة عن الفقر، والتي من ضمنها:
ـ هجرة الملايين من الشعوب الفقيرة إلى الدول الغنية كل سنة سعيا وراء المال وما ينبئ به التزايد الكبير لأعداد البشر الراغبين في ذلك من بداية لتدفق فوضوي لا يمكن إيقافه أو التحكم فيه.
ـ ظاهرة ما يسمي الإرهاب والتي تبرز ما يمكن أن يلجأ إليه الإنسان من وسائل لرفض الظلم والبحث عن التغيير والسعي وراء القناعات.
وما لم تسارع تلك الدول إلى السعي الجدي لإيجاد حل لتلك المشكلة، ستجد نفسها قريبا عاجزة عن حماية جزيرتها المتخمة بالخيرات من الأمواج العاتية المتدفقة من البحار المحيطة.
اضافةتعليق
التعليقات