إستللته بكل شغف من على رفوف مكتبة والدي، كان من عادتي قبل أن آوي إلى فراشي بقليل، أتصّفح كتابا لا على التعيين، لكنني هذه الليلة كان جُلّ اهتمامي أن أطالع في سيرة أصحاب النبي الأكرم، فكان كتاب سير النبلاء للحافظ الذهبي هو من وقع اختياري عليه، فيا له من اختيار موفق!.
لطالما سمعتُ من علمائنا الأفاضل وهم يتحدثون من على منابر المساجد عن صحابته الأجلّاء.. فبيتنا في الأعظمية ملاصق لمسجد النعمان الشهير، وكنا نسمع أصوات الصلوات على النبي وآله وصحابته أجمعين تصدح بالآفاق عبر مكبّرات الصوت.. وأنّ أصحابه رضوان الله عليهم نجوما متلألئة تدور في فلكه عليه أفضل التحايا وأتم التسليم، بل ويشنّفون أسماعنا بالحديث المرويّ عن النبي في حقهم إذ كان يقول فيهم:
(أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم).. حتى كانت تلك الليلة المشهودة التي فارقني بها الكرى وأطارت النوم عن عيني.
تصفحتُ الكتاب وقرأتُ منه سيرا لبعض الصحابة الأجلّاء، وكلمّا أنهيتُ سيرة إزددتُ إعجابا وحبُّا بصاحبها، حتى غفوتُ ولمّا يزل الكتاب بين راحتيّ..
وفجأة.. رأيتُ فيما يرى النائم نجوما مزهرة تتلألأ نورا وتشع ضياء وسرورا، إلا أنّ بعضا من تلك النجوم رأيتها منطفئة لا يكاد يُلمس منها حتى بصيص نور.. فاستغربتُ كثيرا من حالها فوجدتُ نفسي أخاطب إحداها قائلة :
_ أيها النجم المنطفىء أخبرني بالله عليك أوَ لستَ من أصحاب النبي الأجلّاء؟ فمن أنت ياسيدي؟ ولمَ أنت منطفىء هكذا ولا يُرى لك من نور؟!
فأجابني قائلا :
_ أنا من أصحاب النبي.. نعم، ولكنني لستُ من الأجلّاء، أرجوكِ يا ابنتي لا تسأليني عن نوري (ولا عن مالكي!!) ودعيني في همّي.
_ هلّا اقتربتَ نحوي قليلا كي أراكَ ياسيدي.
وإذا به يستجيب إلى طلبي ويقترب.. لكنني ياالهي أراه متبرقعا، لمَ هو كذلك؟ لابد أنّ في الأمر سرُّ نحن لا نعرفه..
فاستجمعتُ شجاعتي وكل فضولي وسألته :
_ مَن أنت ياسيدي؟ ولماذا تتخفّى وتضع برقعا على وجهك؟!
_ أنا أنس بن مالك صاحب رسول الله وخادمه لعشر سنين..
_ الله.. ما أعظمك ياسيدي!! وما أعظم توفيقك!! إذ خدمتَ النبي عشر سنوات، فهنيئا لك هذا التوفيق الإلهي.
_ نعم هو كما تقولين، توفيق إلهي أن أخدم النبي الأكرم، حتى إنّ تعامله معي كان مثالاً ونموذجاً في الأخلاق والكرم، فلم يقل لي يوماً عن شيءٍ فعلته لمَ فعلته، ولا لشيءٍ لم أفعله لمَ لم تفعله، ولم يسبّني رسول الله يوماً أو يعبّس في وجهي أو يقول لي أفٍ قط، بل كان تعامله معي مبنيّاً على الرّفق واللّين وطيب المعشر.. لكنني للأسف الشديد خنتُ الزاد والملح كما يقولون.
_ ماذا؟! لا يمكن أن تكون خائنا ياسيدي! ما الذي تقوله لابد أنك تمزح.
_ لا لستُ أمزح.. أين أنا والمزاح ياٱبنتي! ألا ترين البرقع الذي أتلفع به كي أخفي ما تحته؟
_ أجل إني أراه فما قصته ياسيدي؟
_ هذا البرقع الذي ترينه هو خلاصة دعوة العبد الصالح عليّ.
_ من هو العبد الصالح؟ ما الذي فعلته كي يدعو عليك؟
_ العبد الصالح هو أخو النبي وابن عمه وزوج ٱبنته الزهراء ذاك علي بن أبي طالب، لقد ناشدني الشهادة في حقه ونحن في رحبة الكوفة لكنني كتمتُ الشهادة وادّعيتُ أنني نسيت الحادثة.
_ أي حادثة تقصد ياسيدي؟
_ حادثة الغدير حين ولّى علينا النبي خليفته من بعده في منطقة بين مكة والمدينة تسمى خم قرب غدير ماء.. وقد كان النبي عائدا من حجة الوداع... فبايعناه كلنا بالولاية.
وفي الكوفة ناشد علي الناس اللّه في الرحبة، فقال: انشدكم اللّه رجلا سمع النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلّم يقول لي، وهو منصرف من حجّة الوداع: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه» فقام رجال فشهدوا بذلك. وكنت حاضرا بينهم ولم أشهد فقال لي: يا أنس بن مالك لقد حضرتها فما بالك؟ فقلتُ له: يا أمير المؤمنين كبرت سنّي، وصرتُ ما أنساه أكثر ممّا أذكره. فقال لي: "إن كنت كاذبا فضربك اللّه بها بيضاء لا تواريها العمامة".
فاستجاب الله دعوة العبد الصالح.. أصابني البرص ومن ثم أصابني فيما بعد في وجهي، فكنتُ لا أُرى إلا متبرقعا.
_ يا لها من عاقبة مخزية ياسيدي.. لكنك من الصحابة الأجلّاء بل والنبلاء.
وفجأة عاد القهقرى وقفل راجعا، وقد بدا نجمه يتلاشى شيئا فشيئا وهو يقول:
_ لا لستُ جليلا ولا نبيلا.. لستُ جليلا ولا نبيلا..
فناديتُ بأعلى صوتي:
_ أنت صحابي ياسيدي أنت صحا..
وإذا بكف تهز كتفي بقوة.. ففزعتُ من نومي، ثم ٱنتبهت إلى أمي وهي توقظني، وتقول لي:
_ يبدو أنكِ رأيتِ مناما يا سلمى.
_ أي منام يا أمي! انه كابوس قد جثم على صدري.
_ لكنكِ كنت تصرخين صحابي صحابي.. ما الأمر؟
_ اسمحي لي يا أمي أن أعود إلى النوم ثانية، ولا أدري إنْ كنتُ أستطيع النوم أم لا، لكنني أعدكِ أنني بعد الإفطار سأقصُّ على مسامعك رؤياي عن الصحابي النبيل!.
اضافةتعليق
التعليقات