العلوية آمنة الصدر -المعروفة ببنت الهدى- وكإنها وولدت بدعوةٍ مستجابة كدعوة أم مريم لِبنتها البتول، بعد أن قبلها الرب المتعال بأحسن القبول، واصطفاها لدور خاص.
إذ سطعت علينا كنجمة لتضيء سماء بغداد، تلك السماء التي كانت تستمد رفعتها من قبتي إمامين جوادين وهي من نورهما قد أستقت الضياء، ثم ازدادت نوراً وبهاءً بإنتقالها لمجاورة سيد الأوصياء وإمام الأتقياء، فكساها من نور إيمانه وصبره على نوائب الزمان التي كان أولها فقد الأب الحاني والسيد الجليل الفقيه.
فغدت نِعم النبتة الطيبة المستطابة، العاملة لصناعة نفسها ونماذج صالحة نسوية للتمهيد لظهور دولة العدل الإلهية المرتقبة، حيث وعد الله تعالى عباده الصالحين(١) بوراثة الأرض وما عليها..
صانعة لا باحثة فقط
لم تكتفِ بكونها تعيش بأجواء أسرية لم تخلو أوقات أفرادها من مجاهدة النفس، وطلب العلم ونفع الخلق لتؤدي هكذا دور متى ما طلب منها فقط؛ لإدراكها إن معرفة طريق الحق وإبصار نوره سهل وميسر فأمره واضح كنور الشمس لذوي الفطرة السليمة، لكن الثبات والاستقامة للبقاء في هذا الطريق هو الذي يحتاج إلى كدح، وإن الذي يُبصر نور الحق صدقاً، يراه جزءً من وجوده، وهماً من همومه، والأخذ بأيدي الأخريات مسؤولية تشريفية يحملها فيتذوق حلاوتها لا مرارة صعوبتها!.
وبعد أن عرفت ما هي رسالتها في هذه الحياة، حرصت كل الحرص أن تصنع نفسها بنفسها جيداً، أن تصقل شخصيتها وتذيب تلك الذات في مبادئ عقيدتها السمحاء فلا ترى لذاتها أي وجود حتى أنها كانت تتنازل عما تحتاجه لنفسها بما لديها من مال قليل لتشتري به ما تحتاجه في مسيرتها العلمية، ولعلها كانت تخاطب نفسها مرددةً: [إن القلب لما يستغني بهدف سامي يزهد في كل ما سواه من الأشياء]، أصبحت لا ترى إلا السعي في إيصال الحق لمن ضاع الحق عندها، ولمن ضيعته بعد أن أوصل شيء منه إليها.
لذا سعت لبناء أولى معالم شخصيتها التوعوية الإصلاحية بتعلم القراءة والكتابة كخطوة أولى في أوائل عمرها عَبر تحصيل العلوم الأكاديمية إلى جانب ما تمكنت من تحصيله من العلوم الدينية على يد أستاذها (أخيها السيد الجليل)، كما حرصت كل الحرص أن تجتهد وتتقن فنون العلم حتى تمكنت اخيراً من الجمع في تحصيل كلا العلمين (الأكاديمي والحوزوي).
هي لم تجد صعوبة بأن تعرف ما لديها من مواهب إلهية لتُظهرها وتَضعها في موضعها، إذ عرفت بالذكاءِ الوقّاد، وسُرعة الحفظ، وقابليتها العالية علىٰ جذبِ النساء إليها بعذوبة لسانها ولطافة منطقها، ففي كل حركاتها وسكناتها كان هناك قبس من نور وسَكينة ومصدر رُشد لكل من تقترب منها طلباً لهدى القلب وصلاحه.
كما وظهرت عليها علائم الولع بمُطالعة الكُتب، كل أنواع الكتب غير مُقتصرة علىٰ الإسلاميّة منها، بل حتى الكُتب غير الدينيّة (العامة)، ساعية أن تكون مواكبة لكل ما يُطرح على الساحة الفكرية والثقافية، لتكون قادرة على احتواء كل المستويات والتوجهات الفكرية لنسوة مجتمعها وخاصة ممن هن في سن الشباب لتحقق هدفها التوعوي والتثقيفي لهن، الذي يبدأ من تصحيح الفكر وترسيخ عقيدة الاسلام المحمدية الاصيلة التي بدأت ملامحها تطمس بأفكار منحرفة مضللة...!
فقذف الله تعالى نور العلم في قلبها حتى نفذ في كل وجودها المبارك -لأهلية كانت تحملها- فصنع منها إنسانة رسالية مصلحة فريدة... فريدة في جهدها وسعيها وطموحها وإخلاصها التام.
مهمومة ذات همة عالية
ظاهرها الذي تجمل بالعفة والوقار وباطنها الذي تزين بثقافة الثقلين، والذي كان واضح للعيان في سلوكها؛ فعقلها كان يُردد كلمات القرآن الصامتة [كونوا كالنبي إنه القدوة والاسوة](٢)، وقلبها يُردد كلمات القرآن الناطقة "كان ذلك القدوة طبيب دوار بطبه"(٣)، وعندما أتفق القلب مع العقل صنع منها ترجمان لتلك الكلمات النورية، فهي لم تكن تكتفي بالجلوس في دارها تداوي القلوب المريضة التي تأتيها على أثر الانحلال والانحراف الذي كان يعيشه المجتمع النسوي، ولا تداوي العقول السقيمة على أثر ظهور الأفكار المنحرفة التي تخالف فكر ومبادئ وقيم إسلامها المحمدي- الذي سيعيد معالمه خاتم الحجج (عج) بشكل كامل- لذا صعوبة الوضع جعلها تضاعف الجهد فشرعت لعقد جلسات دوريّة في بيوتٍ الأخريات ممن كان لهن ميول لفكرها، كذلك -كما ينقل-حين سماعها بوجود جماعة مِن النسوةِ في بيتٍ معيّن، تُسارع إِلىٰ الحضورِ في أوساطِ النساء عندما ترىٰ أنّ الجوَ مُناسب.
فعلى أثر الخطر الذي ألم بفتيات الاسلام، والخطط التي تحاك لدثر معالم الاسلام تولدت في داخلها الهمة العالية لا الانهيار!! تلك الهمة التي جعلتها تستثمر الفرص التي يمكن من خلالها إيصال معارف دينها الحقة فشرعت بكتابة المقال عبر المجلات، وكتابة القصص الإسلامية، لتعطي صورة حقيقية لما يجسده الإسلام كمنهج متكامل لحياة المرأة الصالحة المصلحة الذي على كل مهدوية منتظرة أن يتجلى في شخصها وشخصيتها.
هذا النَفَس الخالص في كل ما كانت تكتبه كان له الأثر البالغ في نفوس المتلقيات وجذبهن بشكل أكبر.
كما وإن همها وهمتها جعلاها تدخل لعالم كتابة الشعر فهي لما وجدت نقصاً سائداً في ذلك الوقت، وهو عدم خوض المرأة مجال كتابة الشعر الهادف الذي يتسم بالفكر الواعي والنقاء، طرقت هذا الباب لتعطي جرعة من القوة والثبات للسائرات في هذا الدرب حتى ظهور صاحب العصر الزمان (عج)، ولتحفيز الأخريات ممن يملكن هذه الموهبة ليطرقن هذا الباب الذي هو سلاح وجهاد يقابل موجة الإعلام والأدب المنحرف الخداع.
رسالية مخططة طماحة
نظرتها البعيدة المدى التي ورثتها من جدها أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي عاشت بقرب قبره الشريف، وتعايشت مع منهجه الذي ترسخ بوجدانها، جعلها تحرص كل الحرص على صنع نماذج بارزة وصفوة طيبة صالحة ليُقمن بدورهن الرسالي الإصلاحي في المجتمع النسوي معها وبعدها، حيث تمكنت أن تُربّي عددًا من النساءِ، حيث أصبحت كُلّ واحدة منهنّ معلّمة لمجموعةٍ من الفتياتِ والنساء.
هذا ما مكنها أن تتوسع في عملها الإصلاحي والتوعوي، إذ طورت عملها إلى مستوى العمل المؤسساتي للإشراف علىٰ مدارس دينية متعددة، بالإضافةِ إلىٰ الدروسِ والمحاضرات التربوية الّتي كانت تُلقيها علىٰ الطالباتِ والمعلمات، واللقاءات التي كانت تجمعها بالطالبات الجامعيات لتجيب على الأسئلة والإستفسارات، لكن بعد صدور قانون "تأميم التعليم"، خرجت من عملها، لأن الهدف من تواجدها كان هو بث روح الإيمان في نفوس الطالبات والمعلمات، إذ إشراف السلطة الظالمة على هذه المدارس فلم يَعُد هناك جدوى من البقاء-كما ارتأت هي ذلك -.
النجمة الشهيدة
أنجزت الكثير مع أن رحيلها كان سريع جدا، لتبقى مشهدًا رساليا جميلا ليس له مثيل.. فمنذ لحظة مجيئها إلى عالم الدنيا وحتى بعد رحيلها بقيت هي... هي تلك النجمة التي لا يليق بها إلا الارتباط بالسماء، فإن الأرواح التي تتسع لعيال الله ولنشر نوره فيهم، الساعية لنفعهم بالنفع الأكمل والأنقى هي أرواح مشهودة في السماء لكن لطالما ضاقت الدنيا ونفوس أهل الدنيا التي عشعش فيها الظلام على تلكم الأرواح، ليكون مصيرها الرحيل قتلاً حاصدة وسام الشهادة، فلا يليق بمن لا تعرف الدنيا قدره إلا الرحيل عنها، لتغيب في الجانب الآخر من هذا العالم، على أمل أن تكون من أهل الرجعة (٤) حيث بزوغ فجر إمامها المرتقب ظهوره بعد طول غياب.
------
اضافةتعليق
التعليقات