قد يختلف مفهوم النصر عند الناس فيرونه من زاوية محدودة وهي النصر بالسلاح بينما النصر الحقيقي هو في الثبات واتخاذ الحق سبيلا فكم من طاغ طغى بجبروته وآخر الأمر لم يحصل إلا على الخسران.
ولن يكون النصر هكذا بل يحتاج القوة قوة الصبر وبذل الجهد من وقت ومال وأنفس حتى يتحقق النصر الدائم الذي تنتفع به الأجيال.
وقد وضح وتحدث عن النصر اية الله الشهيد حسن الشيرازي في كتابه خواطري عن القرآن عند شرحه الآية الكريمة:
(وإذ قال موسى لقومه: يا قوم! اذكروا نعمة الله عليكم: إذ جعل فيكم أنبياء، وجعلكم ملوكاً، وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين * يا قوم! ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم، ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين*.
قالوا: يا موسى! إن فيها قوماً جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون *).[ سورة المائدة]
إن تحقيق أي هدف يحتاج إلى التضحية بشيء من الطاقة، التي تتمثل في الوقت والجهد، وربما يضاف إليهما المال أو النفس. كما أن لكل هدف يتحقق، سلبيات وإيجابيات: فإذا كانت إيجابيات هدف أرجح – في الميزان – من سلبياته، ومن التضحية التي يكلفها، كان هذا الهدف حسناً يلزم تحقيقه، وتحمل سلبياته وتضحيته. وإذا كانت إيجابيات هدف أخف – في الميزان – من سلبياته، ومن التضحية التي يكلفها، كان هذا الهدف شيئاً يلزم إهماله، والخوف من سلبياته وتضحيته.
وفتح مدينة محصّنة، هدف يكلف تحقيقه كثيراً من الجهد والوقت والمال والأنفس: غير أن هذا الهدف، إذا كان استجابة لشهوة حاكم في المزيد من التسلط، كان هدفاً سيئاً يلزم إهماله، والخوف من سلبياته وتضحياته. وإذا كان لإنقاذ مصير أمة من طغيان الظالمين، كان هدفاً حسناً يلزم تحقيقه، وتحمل سلبياته وتضحياته. بل يلزم الخوف من إهمال مثل هذا الهدف، لأن إنقاذ مصير أمة من عبث الظالمين، وإن كانت له سلبيات وتضحيات، إلا أنها أقل بكثير من السلبيات والتضحيات التي تترتب على إبقاء الظالمين على دفة الحكم:
فالشجعان – الذين يتمتعون بمقاييس سليمة – هم الذين يخافون من سلبيات الإبقاء على الظالمين، ويتحملون سلبيات القضاء عليهم.
والجبناء – الذي يعانون من ارتباك المقاييس – هم الذين يخافون من سلبيات القضاء على الظالمين، ويتحملون سلبيات الإبقاء عليهم.
والنتيجة: الشجاع يضحي أقل، وهو مرفوع الرأس، والجبان يضحي أكثر، وهو مطأطأ الرأس.
وفي موضوع الآية، كان على بني إسرائيل أن يدخلوا (.. الأرض المقدسة ..) لإنقاذ مصيرهم، فاقتحامها كان لصالحهم مهما كانت التضحيات. ولكنهم جبنوا عن التضحية ببعضهم في ساحة القتال، وفضلوا عليها المصير القلق. فخوفهم من القتال كان كاذباً، وخوف الرجلين من استمرار القلق كان صادقاً.
(.. أنعم الله عليهما ..) بنعمة سلامة التفكير: فالذي وهبه الله العقل، أنعم عليه بكل شيء. والذي لم يهبه العقل، لم ينعم عليه بشيء وإن وهبه كل شيء.
(ادخلوا عليهم): العمالقة، (الباب): باب (الأرض المقدسة)، واقتحموها. (فإذا دخلتموه فإنكم غالبون).....
وأن لكل تحول أحكامه، وأن لكل مرحلة معطياتها. فالإنسان في وضع لا يستطيع استيعاب وضع آخر: فالفقير لا يستطيع استيعاب وضعه ـ هو بالذات ـ إذا أصبح غنياً. والمحكوم لا يقدر أن يتصور ذاته، إذا غدا حاكماً. فكل فرد عرف ملابسات واقعه، فإذا تحول عنه إلى واقع آخر، فوجئ بملابسات جديدة لم تكن تخطر له على بال.
وأي جيش ـ قبل أن يخوض معركة ـ ربما يعاني من سلبيات كثيرة تترك مكانها لإيجابيات أكثر، بمجرد خوضه المعركة. كما أن الفرد ـ إذا تورط في أزمة ـ تتضح أمامه سبل وأساليب، لم يكن من الممكن أن يتصورها قبل تجربته للأزمة.
وهكذا.. كان بنو إسرائيل قبل دخول (الأرض المقدسة). فهم كانوا يأخذون بنظر الاعتبار ضعفهم السابق، وقوة الفراعنة الأسطورية، التي كانوا يتهيبونها وهم تحت نير الاستعباد، فما كانوا يدركون أن جميع المقاييس تتغير مع أول سهم يتحرك من كبد قوس.
ولكن الرجلين الواعيين كانا يقولان لهم: (إذا كنتم تريدون الانتصار المادي الدنيوي، فعليكم أن تقتحموا (الأرض المقدسة). وإذا كنتم تزهدون في الانتصار المادي الدنيوي، لأن مطامحكم في السماء، فعليكم ـ أيضاً ـ أن تقتحموا (الأرض المقدسة) مهما كانت النتائج، لأن الله أمركم به).
(وعلى الله توكلوا إن كنتم مؤمنين)
وعليه، منطق الجيش الإسرائيلي، ليس منطق جيش على الإطلاق. فالجيش ينفّذ الأوامر فور تلقيها من قائده، مهما تدهورت أوضاعه ومعنوياته، وكيفما كان قائده. فكيف بجيش خرج من (مصر) إلى (الأرض المقدسة)، مجاهداً بين يدي رسول من أعاظم رسل الله، حيث الشهادة أحب من النصر ؟!
وهذا المنطق يصور بوضوح، النفسية الإسرائيلية المترجرجة، حتى في
المجال العسكري، وحتى أمام أعداء (العمالقة)، حيث يفترض أن تنقض عليهم، مهما كانت النتائج.
ولو أهملنا كل الاعتبارات في تقييم طبيعة هذا المنطق، فيطمئن إلى أنه سيدافع عنه، ويوفر له وسائل امنه واستقراره، ويتحمل عنه عناء الجهد والنصب، سواء عمل أم لم يعمل.
ولم يكن هذا وضع الجيش الإسرائيلي مع موسى بن عمران، فليس لنبي أن يقاتل مع جيش من الملائكة في جبهات الطغاة، ويوفر للناس جو الهدوء، فهو معلم يدرب الناس على الحياة، وليس أماً حالمة تربي على الكسل والاسترخاء.
على أن موسى بن عمران بالذات، كان رجل الضبط والربط، الذي بعثه الله لتدريب بني إسرائيل ـ ومن ورائهم الإنسانية جمعاء ـ على مكارم الأخلاق، والصفات الفاضلة، وقد اختبروه حازماً صارماً، فلم يكونوا يتوقعون منه التجاوب مع دلالهم.
وبالفعل: ما جابهوه بهذا التخاذل الأرعن، إلا وصدعهم بأقسى من الموت: (قال: فإنها محرمة عليهم أربعين سنة، يتيهون في الأرض. فلا تأس على القوم الفاسقين*). وأربعون سنة، عمر جيل. فأكلت الصحراء ذلك الجيل، ولم يدخل (الأرض المقدسة) إلا خلفه.
الجبان الخانع، الذي يفضل الذل على التضحية. وهو وضع بني إسرائيل طوال التاريخ، وفي كل مكان. فهم يتخشعون ولا يترفعون، ويحقدون ولا يثأرون. وهم للقوي أذل من التراب، وعلى الضعيف أشرس من الذئاب.
ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة، أن ينشق الجيش، فيندفع قسم منه مع قائده، أو تظهر فيه – على الأقل – مجموعة فدائية تأسو القائد المطعون من الخلف.
ولكن لم ينقسم الجيش الإسرائيلي على نفسه، ولم تظهر فيه حركة فدائية. وإنما ظهر فيه رجلان فقط، كان لهما منطق إيجابي، ولكن رجلين لا يشكلان أية نسبة مئوية، ولا يشكلان أية قاعدة قوية يمكن الدفاع أو المناورة بها.
منطق هذين الرجلين، يتلخص في الأخذ بزمام المبادرة. فالمبادرة – دائماً – تضع الطرف الآخر أمام الأمر الواقع، وتسلب منه فرصة التفكير والتدبير، وتلجئه إلى الانفعال والارتجال.
وتجارب التاريخ تتظافر على أن الناجح هو الذي يأخذ بزمام المبادرة، فالفعال الحقيقي هو الذي يقوم بالفعل، والمنفعل هو الذي يقوم برد الفعل. ألم يقل الإمام علي (عليه السلام):
(اغزوهم قبل أن يغزوكم، فو الله، ما غزي قوم ـ قط ـ في عقر دارهم، إلا ذلوا).
اضافةتعليق
التعليقات