بعد ۳۱ عاما من الحیاة المشتركة، طلبت مني زوجتي أن أخرج للعشاء برفقة امرأة أخری ثم أدعوها للسینما لنقضي وقتتا ممتعا. قالت لي أحبك جدا؛ ولكن هذه المرأة تعشقك بكل كیانها، تهیم في بحورك دون وجل و تعیش غرامك بصمت دون أن تطلب المزید.
فهمت من القرائن أن تلك المرأة لیست سوی والدتي التي ترملت قبل ۱۹ عاما، ولكن تفاقم المسؤولیات و العمل المنهك و إدارة المنزل بزوجة و ثلاثة أولاد، أدی إلی انشغالي عنها دون قصد و إرادة.
اتصلت تلك اللیلة بها و دعوتها للعشاء. كانت أمي طویلة القامة مملوحة المحیا، رسمت خطوط الزمان في جبهتها خوارط التفاني و متاهات التضحیات، یجول في عینیها بریق یدغدغ عرائس الأمل لتتراقص بإیقاع رزین علی حبال الأزمات، أما بشرتها الحنطیة فبیدر ینثر حبات الحب و السلام، لیسع الخلیقة كلها.
سألتني: هل حدث شئ یا ولدي؟! هل أنت بصحة جیدة؟
كانت والدتي من النوع الذي تتحسب في الأغلب النتائج السیئة لدعوة غیر مرتقبة أو اتصال في وقت متأخر، لذا طمأنتها و قلت: لا أبدا، فقط أحببت أن أقضي لیلة سمر مع أمي العزیزة سنستمتع كثیرا.
فكرت للحظات ثم أجابت: حسنا اقتراح جید.
هرعت أضواء النهار تودع ساحات المدینة المزدحمة لتحل محلها أثواب اللیل المزركشة بأکالیل الأضواء المتضاربة في السطوع و التلألؤ.
اتجهت مساء الجمعة ناحیة منزلها، کنت قلقا قلیلا و عندما وصلت، لاحظت مضامین الریبة في وجهها، فقد بدت الدعوة مبادرة غریبة.
كانت ترتدي فستانها الماروني المزركش و الراقي الذي اقتناه لها والدي في آخر ذکری لزواجهم.
بعد هنیهة علت وجهها ابتسامة تحتوي في طیاتها جل ألطاف الملائكة، همت بركوب السیارة و قالت: أخبرت صدیقاتي بأنني سأخرج معك، تأثرن جدا! و الکل بانتظار الثرثرة في هذه الواقعة اللطیفة و التعرف علی متاهاتها.
أزكمت رائحة الخبز الحار و اللحم المشوي الأنوف عند دخول المطعم، بدا فاخرا و جمیلا، احتوی أجواء رومانسیة دافئة.
كانت تمسك ذراعي و كأنها ملکة تخطو خطاها نحو العرش، عندما استقر كل منا في مقعده، قرأت لها قائمة حتی تختار أکلتها المفضلة لأنها کانت تستطیع قراءة الحروف الكبیرة فقط.
لحظْتُ بنظرة من فوق اللائحة، وجدتها تترقبني بغرابة ترافقها ابتسامة حزینة أحاطت بسحنتها الشاحبة.
قالت: عندما کنت طفلا کنت أنا من یقرأ لك القوائم!
أجبتها مسرعا: و ما الضیر في ذلك؟ جاء دوري الآن لأقرأها و أكافئ قطرة من تضحیاتك في خضم البحور المتلاطمة في الحیاة.
استندت بظهرها إلی جسم المقعد القائم خلفها بتباه و استعلاء.
تصاعد البخار من الأطباق الملونة زکیا و معطرا. كانت حبات الزیتون الخضراء، ترصع صحن اللبن المرصوص بجانب القصعة الملكیة التي تصدرت الطاولة، و قد ملئت بصنوف اللحم المحمر و المشوي بعنایة ماهرة؛ تزینه خصل البقدونس و الریحان، و شرائح الطماطم اللذیذة بحمرتها الفائقة. کان المنظر شهیا لا یدع مجالا للمجاملة.
عند العشاء کنا متطابقین في کل شئ تقریبا و لم نختلف في الأذواق بتاتا، تحدثنا كثیرا و مطولا حتی لم یبق وقت للذهاب إلی السینما.
عندما أوصلتها إلی البیت في آخر المساء قالت لي: أحب كثیرا أن نخرج مرة أخری ولکن عدني أن تسمح لي باستضافتك في المرة القادمة. جاء صوتها لطیفا و هادئا أثار في خاطري ذكریات الزمن الماضي، تلك الرؤی التي خفتت أضواؤها الشمعیة و بهتت، أمام إضاءات العصر الحدیث الصاخبة و هیاجها العنیف.
لما وصلت إلی البیت سألتني زوجتي: حسنا! كیف كانت سهرة الأم و الولد التاریخیة؟!
كانت رائعة جدا فوق ما أتصور، لقد أمضینا وقتا ممتعا.
بعد عدة أیام، أصیبت أمي بنوبة قلبیة مفاجئة فارقت علی أثرها الحیاة! ذهبت مع كل شئ جمیل في وجودي، طارت مع سنونو الربیع عبر الأثیر باحثة عن مكان أفضل مما كانت فیه. حدث ذلك سریعا دون أن أتمكن من تقدیم المساعدة.
طوقت سلاسل الحزن عنقي بهیئة عجیبة! لم یسبق لي أن جربت مثل هذا الألم بتاتا. متقلبا أبدا بین الرفض و الخضوع تجرعت المرارة علی مضض هویدا هویدا!
بعد فترة وجیزة وصلني ظرف من المطعم الذي تعشینا فیه أنا و والدتي. كان فیه استنساخا لفاتورة، ترافقه ملاحظة صغیرة في جانبها: لن تتفهم أبدا یا ولدي كم كنت سعیدة تلك اللیلة، کنت أطیر كفراشة اكتشفت أرض العجائب الذي بحثت عنه مطولا. في الحقیقة لست متأكدة من قضاء وقت آخر برفقتك لذا دفعت فاتورة عشاء لنفرین أنت و زوجتك، أحبك جدا!
في تلك اللحظة أدركت كم هي هامة كلمة أحبك، و كم هي عمیقة تلك الفكرة التي تدفعنا لتخصیص وقت نقضیه مع من نحبهم، نتسامر و ننصت إلی أصوات اللیل و نتابع تراقص النجوم تحت سماء مرصعة في بعض الأحیان، لأن الفرص قد تتطایر دون رجعة.
لا سیما الأم، کیمیاء المخلوقات و عظمة الإبداع الإلهي الذي تجلی في هذا الخلق الملائكي.
یقول أحدهم تستغرق 6 أسابیع لتعتاد الأم الحیاة الروتینیة بعد ولادة طفل صغیر، و لكنه لا یفهم عندما تصبح المرأة أما یصبح للإعتیاد مفهوم آخر مختلف تماما عن الأذهان.
یقول آخر تستطیعین التعلم كیف تصبحین أما خلال أیام، إلا أنه لم یصطحب طفلا في الثالثة من العمر إلی الأسواق أبدا.
یعتقد البعض أن الأم المثالیة لا ترفع صوتها أبدا علی صغیرها لكنه لم یدخل إلی فناء الدار لیری كیف أن هذا الصغیر قد كسر شاشة التلفاز بكرته المطاطیة.
تقول الجارة لا تحب الأم ولدها الثاني كما تحب بكرها، إلا أنها لم تحظ بنعمة الولدین معا.
یقولون أن أصعب شئ في الأمومة هو الحمل و الولادة؛ لكنهم لم یجربوا أبدا حال أم ألبست ولدها هندام الجندیة لترسله إلی سوح الوغی.
یقول أحدهم أن مهام الأم الخارقة والصعبة ستنتهي بعد أن تزوج ولدها و تسكنه القفص الذهبي، إنه آخرالمطاف، ولكنه لم یحظ بحفید حتی تعتصره أوداجه كلما اشتاق لزیارته.
یقول الآخر: أمك تعلم كم تحبها، و لا حاجة لذكر ذلك علی لسانك، فهي ملمة بك و بمكنوناتك ولكن هذا الآخر لم یجرب أن یصبح أما أبدا!!
اضافةتعليق
التعليقات