لماذا نبحث في الشعائر الحسينية؟
هناك أكثر من داع مهم عقلا و شرعا يستدعي البحث في الشعائر الحسينية من باب أنها المصداق اﻷجلى و اﻷعظم لقاعدة تعظيم الشعائر الدينية، و ذلك ﻷنها تحظى بقدسية خاصة عند الموالين والمناصرين للحسين عليه السلام من أي فرقة أو دين كانوا، كما أنها من المراسم المستمرة عبر اﻷجيال منذ قديم اﻷيام إلى يومنا هذا.
انّ تعظيم الشعائر الحسينية أوسع مراسم يشترك فيها عموم الناس من رؤسائهم و أمرائهم إلى علمائهم و أغنيائهم و فقرائهم و رجالهم و نسائهم و كبارهم وصغارهم، فهي الشعائر اﻹلهية الوحيدة التي تحظى بهذه الميزة؛ إذ لا يشترط في احيائها بلوغ ولا تكليف، ولا غنى أو فقر، ولا عالي المستوى، ولا عادي المستوى. فهي أعظم الشعائر الدينية التي تحييها عموم اﻷمة، وهي الجامع المشترك الذي يوحد الجميع تحت رايته، ويجمع المتفرقين في شكله وغايته. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نلاحظ أن هذه الشعائر قوبلت وعلى مدى التأريخ بالكثير من المحاربة والعداء من قبل الحكومات و اﻷنظمة السياسية الفاسدة والتيارات الظالمة المنحرفة المتأثرة بالفكر المادي، والداعية إلى الفساد والتخلي عن الهوية اﻹسلامية وتقليد الغرب وثقافته المادية في الحياة الاجتماعية والسياسية، وقد اتبعت هذه الجهات أساليب عديدة لمحاربتها كان من أبرزها سياسة التشكيك فيها و الانتقاص من مكانتها.
ومن الناحية الفكرية والفقهية فقد وجهت بعض الاشكالات الفقهية و لا زالت في أيام محرم الحرام تثار من قبل البعض، وهي تتلخص في التشكيك في شرعية تعظيم الشعائر كلها أو بعضها، وتبحث عن المنشأ الشرعي لها، و اﻷدلة التي استند إليها الفقهاء قديما وحديثا في فتواهم باستحباب تعظيمها، وحثهم المؤمنين على إقامتها و توسيعها كما وكيفا على أحسن الوجوه و أتمها ومشاركتهم فيها.
والظاهر التشكيك الحاصل من البعض يرجع إلى سببين:
السبب اﻷول: عدم إحاطتهم باﻷدلة الشرعية وبالاستدلال الفقهي في استنباط الفتوى..
السبب الثاني: عدم وجود دراسات كافية تتصدى لتنقيح موضوع الشعائر الحسينية وبيان أحكامها و أدلتها بشكل واف ينفع العلماء والفضلاء، وترفع الغموض والالتباس الحاصل فيها، فإن الفقهاء الذين أفتوا بجواز تعظيم الشعائر أو استحبابها اكتفوا ببيان الفتوى، ولم يتعرضوا للدليل، نظرا للحاجة أو لجواب المستفتي.
لذا فإن البحث في الشعائر الحسينية وتحديد موضوعاتها و أحكامها يعد من الضرورات الاجتماعية والسياسية والفقهية، بل هو من الضرورات التي يقوم عليها إحياء الدين و إبقاء نهجه في المجتمع المسلم.
تعظيم الشعائر في المنظور الاجتماعي والقانوني:
يعد تعظيم الشعائر الدينية - والحسينية منها - واحترامها من الحقوق اﻷولية للمجتمع البشري في جميع القوانين و اﻷنظمة، كما يعدها علماء الاجتماع من أقوى مظاهر إنسانية اﻹنسان الكاشفة عن صدقه و إخلاصه لفكره و وطنه؛ ﻷنها التعبير الرمزي عن المشاعر والاتجاهات والقيم والمعتقدات عن طريق أفعال و ممارسات منظمة تعمل على تقوية المعتقد نفسه والتضامن مع مبادئه وغاياته.
ولا تقتصر أهمية الشعائر على الفرد، بل تمتد لتشمل المجتمع؛ ﻷنها أداة لتأكيد القيم في نفوس الناس...، ويرتقي بها بعض علماء الاجتماع ويعدها غاية في نفسها وليست وسيلة؛ إذ لا يطلب من ورائها سوى التعبير عن المعتقد وترسيخه في النفوس.
واتفقت كلمة الباحثين في هذا المجال على أن الشعائر عموما والدينية منها بالخصوص تشد من أواصر الترابط و التماسك والتكامل الاجتماعي، حيث تقوي التفاف اﻷفراد و تمركزهم حول بؤرة معتقداتهم و تقاليدهم و تراثهم الثقافي.
ومن هنا أقرت جميع القوانين الدولية والمحلية على اﻹقرار بأهمية الشعائر في حياة اﻷفراد و اﻷمم، ونصت على أن ممارستها حق من حقوق اﻹنسان يرتبط بالحريات الشخصية، ويتكفل القانون بحمايته و رعايته.
وقد وضعوا لها نصوصا خاصة متميزة، منها ما جاء في نص اﻹعلام العالمي لحقوق اﻹنسان في المادة (18) ورد: (لكل شخص الحق في حرية التفكير والدين... وحرية اﻹعراب عنهما بالتعليم و الممارسة و إقامة الشعائر).
فنلاحظ أن القوانين تنظر إلى حرية ممارسة الشعائر الدينية والتعبير عنها على انها مظهر من مظاهر الحرية الشخصية في أبعاد عدة كحرية المعتقد وحرية التعبير وحرية الاجتماع وحرية التعليم والتي تجتمع تحت جامع عنواني واحد وهو حرية الفكر.
ويستمد القانون فهمه واحترامه للشعائر من الحقائق العلمية التي تؤكد على أهمية الدين و دوره الايجابي الكبير في اصلاح الانسان وتكميله والتي هي من أهم القوانين، وقد أقر الكثير من العلماء والباحثين هذه الحقيقة، و أشاروا إلى ضرورة تدين الناس ﻷجل ضمان الحياة اﻷفضل.
وقد نص جمع من الباحثين الغربيين: بأنهم لاحظوا أن من اعتنق دينا يتمتع بشخصية أقوى و أفضل ممن لا دين له.
ومن كل هذه النصوص والمبادئ نصل إلى ثلاث حقائق:
الحقيقة اﻷولى: أن مسألة تعظيم الشعائر مهما كان شكلها واسلوبها تعد حقا طبيعيا مكفولا للجميع، فما يذهب إليه البعض من أنها توجب الاستهزاء أو تشويه سمعة الدين أو المذهب لا يستند إلى أساس علمي ولا قانوني صحيح.
الحقيقة الثانية: ان الدول والمجتمعات التي تعد اليوم متحضرة تؤمن بالشعائر و تحميها وتعدها اسلوبا حضاريا نابعا من احترام اﻹنسان وحريته في معتقده وحقه في اظهار شعائره و طقوسه.
الحقيقة الثالثة: ان ممارسة الشعائر واحيائها في اﻷمة من أبرز دعائم الحرية السياسية والفكرية في أي بلد و أمة؛ ﻷنها الوسيلة الصريحة التي تحمي حرية الرأي، وتنمي في الناس قوة التعبير عنها في الوقت الذي تحترم فيها آراء اﻵخرين وحريتهم في ممارسة شعائرهم و طقوسهم، ومن هنا كانت الشعائر ولا زالت من أبرز عناصر التوحد والتماسك الاجتماعي؛ ﻷنها تقوم على أساس الاعتقاد و اﻻيمان بحرية اﻹنسان واحترام اختياراته.
إنّ الاعتقاد باﻹمام الحسين عليه السلام وبما يتعلق به من مراسم عاشورية والمشاركة في إحيائها وتعظيمها يتجاوز مسألة العقيدة العلمية التي تقوم على اﻹيمان بالحسين عليه السلام كإمام منصوب سماويا ومفترض الطاعة بحسب اﻻدلة والبراهين الكلامية والفلسفية، أو بحسب اﻷدلة النقلية، كما انه يتجاوز مسألة الفكر والنظرة التحليلية الاقناعية لﻷمور، ويتجاوز السلوك الطبيعي في البشر الذي يواجه الكثير من القضايا فيقابلها بالقبول أو الرفض، كما يتعامل اﻹنسان لدى لقاء عزيز أو فقدانه؛ ﻷن قضية اﻹمام الحسين عليه السلام وعلاقة المؤمنين به تتعلق بالحب، وقضايا الحب فوق العقل والبراهين، كما هي فوق المنطق والتحليلات العلمية، و أوسع من السلوك الطبيعي للبشر؛ ﻷن الحب يرتبط بالقلب والروح والشعور، ولا يمكن أن يتحدد القلب ببرهان، أو يتقيد بفكر أو بنظام سلوكي، ومن هنا قال أهل المعرفة بأن العقل يقيده البرهان، والفكر يقيده الميزان، وكذا السلوك اﻹنساني، وأما القلب فهو المنطقة الحرة التي لا تتقيد بشيء...
فلولا الحب لله والشوق للقائه لما آمن عبد ولا صلى ولا صام.
ومن هنا جعل الباري عز وجل المودة للنبي ص والقربى محور اﻹيمان والتوحيد، وفسر النبي (ص) واﻷئمة عليهم السلام الدين بالحب، و ﻷجل هذا الحب ضحى سيد الشهداء عليه السلام وتحمل اﻷذى والضر، وهذا ما يؤكد مضمونه الشعر المشهور في مخاطبة الباري تبارك وتعالى:
إلهي تركت الخلق طرا في هواكا
وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إربا
لما حن الفؤاد إلى سواكا
هذه الحقيقة هي التي تحكم في مراسم عاشوراء و إحياء الشعائر الحسينية لدى الكثير من الناس، فلذا تجدهم يسهرون الليالي ويمشون آلاف الكيلومترات ﻷجل زيارة اﻹمام الحسين عليه السلام، ويهجرون بيوتهم و أهلهم في أيام عاشوراء انشغالا في إقامة العزاء ونصب المآتم... وبعضهم يبذلون دماءهم و أرواحهم ﻷجل التعبير عن هذا الحب، و إحياء الذكرى، إخلاصا لﻹمام الحسين عليه السلام، وتخليدا لذكره.
بهذا الشعور واﻹيمان يحيي الكثير من المؤمنين الموالين الشعائر الحسينية، وفي ضوء هذا الميزان والضابطة ينبغي أن تقاس أعمالهم، وتقاس و توصف الشعائر التي يحيونها لا بميزان الدليل والمنطق الجامد، فإن الشخص الذي لم يكتو بحب اﻹمام الحسين عليه السلام ولم تتوله روحه باسمه و ذكره قد يجد أن البكاء عليه أمر صعب، والذي لم يحترق قلبه لعطش اﻹمام الحسين عليه السلام و دمائه ودموعه يجد أن مواساته بالدم خروج عن المنطق، ولذا قد يعترض على بعض المؤمنين إذا سهروا ومشوا و واسوا بدمائهم ودموعهم ﻷنه لم يشعر بشعورهم، ولم يحترق قلبه كاحتراقهم، ولم يتحسس ما تحسسوه.
من هنا نؤكد أن تقويم الشعائر والحكم على أهلها لا ينبغي أن يكون بمنظار البرهان الفلسفي، أو التحليل الفكري، أو المنطلق السياسي، فيقال هذا أسلوب عصري أو حضاري و ذاك لا، وهذا يتوافق مع ثقافة الزمان و ذاك لا، ﻷن هذا المنطق منطق من نظر إلى اﻹمام الحسين عليه السلام بعدسة الفلسفة والرأي، لا بعدسة القلب والشعور، فإن الذي أحب اﻹمام الحسين عليه السلام وتوله به يجد كل ما يبذل في سبيله قليلا ولو بذل مهجته في سبيله لم يف بحقه...
ومن جهة أخرى فإن الذين أحبوا الحسين عليه السلام وتولهوا في نهجه ونذروا أنفسهم و أموالهم ﻷجل إحياء أمره وتعظيم شعائره لا ينبغي أن يقصروا نظرهم في إحياء شعائره على الممارسات والمظاهر فقط، بل عليهم أن يعرفوا الحسين عليه السلام معرفة أعمق، ويلتحموا بأفكاره ومبادئه وقيمه، فيعيشوا الحسين عليه السلام فكرا وعقيدة وسلوكا كما يعيشونه حزنا ومصيبة..
فلا يصح للمؤمن أن يدعي نصرة الحسين عليه السلام ويحيي شعائره من دون أن يصلح نفسه ومجتمعه، ويجد ويجتهد ﻷجل تقويم شخصيته من الفساد وتصحيح أفكاره من الجهل وتنظيف قلبه من الرذائل.
بذلك يتضح أن تعظيم الشعائر الحسينية هو اﻷصل العام الذي يشترك فيه عموم المؤمنين، إلا أن مراتب التعظيم و آثاره تختلف بحسب مستويات المعرفة واﻷخلاق والعمل، فالبعض يعظم شعائر الحسين عليه السلام ببدنه، وبعضهم يعظمها بلسانه وفكره أيضا، وبعضهم يعظمها بقلبه، ومشاعره كذلك، ولكل واحد من هذه المستويات فضل و أثر، إلا أن اﻷثر التام الذي يحظى صاحبه بمقام ناصر الحسين عليه السلام والمطالب بثأره والفائز بكمال المنزلة عند الله سبحانه هو الذي يجمع المراتب اﻷربع.
اضافةتعليق
التعليقات