هناك في بقعة ارض مُقدسة أُختيرت من على وجه هذه الكرة الارضية الكبيرة تهوي اليها افئدة من الناس يقال لها "كربلاء"، يوجد قبر لقائد عظيم يقصده كل من سمع عنه من مختلف بقاع العالم! فعندما تلقي نظرة على ذاك الطريق المؤدي لزيارته ستجد سادة الناس وكبارهم وشيوخهم وكل اهل المقامات العالية بمختلف اصنافهم من العلماء والدارسين والتجار وغيرهم، صغارًا وكبارا من النساء والرجال يتسابقون لتقديم الخدمة بأدق تفاصيلها لكل الوافدين بمختلف انتماءاتهم، ففي هذا الطريق يتساوى الخلق وتوحد الهوية فلا يُعرف القادم صوب كربلاء سوى بإسم (زائر الحُسين) فيسير بهذه الهوية على كفوف الراحة، ملكًا ثابت الخطى مكرم ذا عزة، الكل يلتمس نيل شرف وصوله فأينما توقفت قدماه يتوسله المستقبلون الاستراحة عندهم وله ما يشتهي ويرغب!.
فأين يتوفر للمسافر مثل هذه الخدمة الفارهة بغير ارض كربلاء؟ ومن اين له ان يحصل على هذه المكانة من اجل حبه واحترامه لشخص قد رحل منذ الآف السنين؟!.
فأي مقصود هذا الذي تتوقف عند ذكر قضيته كل المشاعر المضطربة، لتولد بدلها اللهفة عند قاصديه والرحمة عند عارفيه ويتجلى العطاء اللامنتهي لدى الجميع!.
لا وجود لشخصية معروفة خُلدت وقُدست وأناخت بالغ الاثر الانساني لدى كل البشر عامة ممن عرفوه بلا تمييز على مر العصور والازمنة، فكل من رأى او سمع او قرأ بخصوصه جرفته فطرته الانسانية للبحث والتزود بالمعلومات الكافية عنه؛ من هو، وابن من، وما هي قضيته؟
وما سبب نيله هذا المقام العالي والرفعة المنقطعة النظير! حيث اصبح اسطورة خالدة لا للذكرى فقط؛ وانما حين يتعرف الباحث عن مدى نُبل هذا القائد وما قدمه من تضحيات جسيمة لم يعمد على القيام بمثلها احد لا من قبله ولا من بعده، فقط من اجل تحرير الناس من العبودية وطلب الاصلاح في أمة عُرفت بدينها الحنيف وتعاليمه السمحاء وتعمدت الطعن فيه وانحرفت عنه!.
سيرتبط به وجدانيًا ويُدرك مدى مكانة هذا الثائر الفريد من نوعه الذي لم يحظى العالم بمثله منذ قرون وبإنتظار من يخلفه ويأخذ بثأره ويُكمل مسيرته وثورته ويُحرر العالم من الظلم والجبروت يومًا ما.. يومًا موعودا..
فانه سلام من الله عليه عندما خرج من موطنه آخذًا معه كل ما يملك من المال والولد والاهل ومع ثلة قليلة من الجنود والاصحاب ممن التحقوا بركبه صوب أرض مقفرة في فصل صيفٍ حار، ببلاد غريبة وبعيدة لمقابلة الاف الجيوش المجيشة من قبل طغاة حاقدين؛ لم يخرج لأجل سلطة او جاه ومال بل هو بعيد كل البْعد عن الامور المادية، فهو اكبر من ذلك كله كونه سبط رسول الرب الواحد الاحد "محمد" خاتم النبيين في هذه الارض، وابن خير نساء العالمين "فاطمة الزهراء" وابن سيد الوصيين وقائد الغر المحجلين "علي بن ابي طالب"، إمام وإبن إمام عالم فاهم زاهد من خيرة اهل بيت النبوة ومنبع الرسالة وسيد شباب اهل الجنة انه (الحُسين)!.
فهل هناك مقام ارفع من هذا يتسم به شخص معروف على وجه الكون؟!.
اذن يكفي القليل العظيم مما ذكر بحقه ونسبه وعظمة منزلته..
خرج "الحُسين" لاجل تثبيت دعائم الانسانية في نفوس البشر وتعليمهم معنى الحرية وحقيقتها، وكيف للانسان ان يتمسك بآدميته ليكون انسان بحق، فيترفع عن كل الصفات السيئة ويتجنب السلوكيات الخاطئة بادراك ضرورة السيطرة على النفس وترويضها والكف عن الطمع والجشع وحب الذات والعظمة والاستعلاء على خلق الله بدافع التسلط والتملك، والترأس بالباطل، وانتزاع حقوق الآخرين بالقوة والقسوة، واكل الحرام وفعل المحرمات والكذب والنفاق وغيرها الكثير الكثير من الامور البشعة التي تشوه صورة الانسان وتجرده من انسانيته ليصبح في نظر الآخرين كالوحش الذي يرى كل ماحوله مجرد فريسة، فيتخذ منه الجميع، موقع المدافع الذي لا يرى من نفسه سوى ضحية في نهاية الأمر!.
هذا ماكان يتصفون به واكثر؛ اولئك الطغاة في ذاك الزمان، فعندما لم يجدوا من يقف بوجههم ويصدهم عن اعمالهم الشنيعة، راحوا يعيثون في الارض فسادا ويحرفون آيات كتاب الله على اهوائهم، يهتكون الاعراض ويمارسون كل انواع الاضطهاد والترويع بحق الناس البسطاء والفقراء؛ يسلبونهم حقوقهم ويستعبدونهم ويبيعونهم ويشترونهم كالسلع، ولم يتركوا معصية الا وقد ارتكبوها وقد ضاقت بهم الارض ذرعا..
فما كان للحُسين الا ان يثور ويلبي صرخة المظلومين ويخرج للدفاع عنهم والتضحية من اجل تحقيق العدالة وبسط السلام، فراح يدعوهم للصلاح ويُذكرهم بدينهم ويرجوهم العودة الى الصواب وترك الباطل، حيث قال عليه السلام: (ما خرجت أشرًا ولا بطرا، انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي رسول الله) فلم يرى منهم سوى البغض والعدواة وجرفهم حب الدنيا عن الآخرة فنبذوا الهداية، واختاروا مقاتلته وعزموا على قتل جميع من معه وانزال اقسى انواع الجريمة بحقهم فلم يجدوا سبيلًا للانتصار عليهم غير قطع سر الحياة عنهم ليضعفوا ويموتوا عطشا، فلم يسلم منهم حتى الطفل الرضيع، بل حتى الخيم التي كانت تأوي حرمهم حرقوها، واخذوا من تبقى منهم من النساء والاطفال أسرى مسلبين، مقيدين بالسلاسل يُضربون بالسياط ويُشتمون، وقد رُفعت امامهم رؤوس وليانهم على سنام الرماح، ليكتب التأريخ عن الامام الحُسين منارة الاحرار؛ ويُخلد تلك الواقعة الأليمة التي انتصر فيها الحق وثبتت ورسخت بفعلها كرامة الانسان وعلا شأن الانسانية..
اضافةتعليق
التعليقات