الجهل المحض هو المعيق الثالث الذي تكشفه لنا سورة هود في قصة نبي الله نوح (عليه السلام)، قال تعالى : {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}، ومن الملفت إن ذِكرُ هذا الوصف أتى بعد عاملين نفسيين كانا فيهم وهو سوء الظن والكراهية، وصورتا الجهل المذكورة في هذه الآية -وكأنهما- في الأصل مقوم ومنشأ هاتين الصورتين:
الصورة الأولى: الجهل بغاية الداعي، في قوله تعالى: (لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ ) إذ عبر الداعي عما يطلبه من الله تعالى (أجري) لا (المال)، أي الخاتمة الحسنة والرضوان وحسن العاقبة، لا المال والجاه والسلطان في الدنيا، وهذا مطلب كل الرسل الإلهيين.
وهو (عليه السلام) قال أنني بدعوتي لكم لا أريد مالًا- إشارةً إلى نظرتهم المادية في مقياس أو غاية رسل الله من بعثهم- ففي السيادة جلبٌ للسلطان والمكانة والتمكن على مُقدرات الخلق وبذلك سينال المال والثروة، وهذه كلها ليست من غايات أو مقاصد الرسل الإلهيين، لذا نفاها كتصور كان عالقاً أو معتقداً كان يتبناه هؤلاء أو شرط يضعونه ثم وفقًا له يكونوا اتباع له.
ومن هنا نفهم أن هذه الجزئية من الآية هي منشأ مرض سوء الظن الذي عندهم، فمن معانيه هو الجهل بالشرع كما قال تعالى: {فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ}، فمقياسهم لأتباع الشرع والمشرع لا ينم على معرفة.
أما الدرس هنا فهو: إن النبي رغم إنه يدرك أنهم لا يستوعبوا -كما وصفهم بالعميان- إلا أنه رد عليهم ففي ذلك إشارة لسعة صدره كرسول الهي في أن يرد على كل تساؤل أو شبهة أو تبرير يتعذر به القوم الذين يدعوهم، وفي ذلك تقوية لعقيدة أهل الحق الذين اتبعوه كي لا تعلق هكذا أمور في أذهانهم ويصيبهم خواء ايماني أو شك فيما بعد.
الصورة الثانية: الجهل بأن الدعوة للجميع، قال تعالى: (وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ)، وهذا المورد يُبين منشأ مرض الكراهية الذي يحملوه في دواخلهم، فهو يجعلهم ضيقي الأفق محدودي النظرة فلا يعرفون إلا ما تمليه عليه رغباتهم وأهوائهم، فيتجاهلون كل شيء لا يصب في منافعهم الشخصية الآنية، فحتى الدعوة لعبادة الله تعالى كانوا يريدوها لأنفسهم دون غيرهم.
هنا قال لهم إني رسول للجميع بلا استثناء وليس لطبقة دون أخرى أو مجموعة دون غيرها لأن الجميع هو ملاقي الله تعالى، وسوف يحاسب ويجازى كلا على إيمانه أو كفره لذا هو لا يطرد أحد بل يرحب بالجميع.
وفي ذلك رسالة مهمة إن الداعي إلى الله تعالى لا يدعوا ويبلغ وفق مقاييس المجتمع، ووفق ما يريدون كي يتبعوه، بل وفق ما يريد الله تعالى ولو تفرق كل الناس عنه، فكم من رسالي اليوم يَدعي أنه يدعو إلى الحق، لكنه يدعو بما يحب ويرغب ويوافق مقاييس المجتمع -الجاهل- وهنا هو لم يحقق الغرض- فالداعي يأتي لرفع الجهل عن المجتمع- وإذ به أصبح واحدًا منهم بل وقائدهم دون أن يشعر!!
وعبارة (قَوْمًا تَجْهَلُونَ) جاءت اللفظة بصيغة الجمع والمضارع المستمر أي حالكم الآن وفي المستقبل هو الجهل بهذه الحقائق وعدم الإيمان بها لأنكم اخترتم أن تكونوا في فريق العمى لا البصيرة، لذا من الصعب والعسير عليهم ازالة هذا الحجاب بالمسلمات من الدلائل على مصداقيته وصدق دعوته.
وهذا من أخطر وأصعب أنواع البشر المراد هدايتهم ولكن مع حجم صعوبة أمثال هؤلاء هو كرسول عمل بتكليفه وألقى الحجة عليهم وإن لم يصل إلى تحقيق هدفه الأسمى وهو هدايتهم، وهنا درس آخر نختم به المستفاد من الآية ألا وهو أن الداعي الحقيقي إلى الحق هو الذي يعمل بتكليفه على كل حال.
اضافةتعليق
التعليقات