في الزمن الذي يصرخ الجميع حول محورية الفرد والتركيز على توسعة البعد الفردي والأنا ، نحتاج إلى الوقوف لوهلة وترتيب الأولويات ومعرفة المفاهيم بصورة صحيحة ، فقد نُشرت مفاهيم خاطئة بشكل كبير على نطاق واسع حيث تحرض المرء على حذف كل من وما يؤذيه ويسبب له أية مشكلة، فقد سأل أحد الأخصائيين في مجال علم النفس وبدا مستاءً مما يحدث وسؤاله جعلني أفكر وأدقق أكثر، قال :
يا ترى هل نرتاح بعد أن نحذف الجميع من حياتنا؟
لأن لابد وأن هناك اختلافات تحدث بين أي شخصين ومشاحنات تزلزل العلاقة ، هل من الصحيح أن نحذف الجميع ونغلق الأبواب على أنفسنا ونعيش بمفردنا؟
الانسان شيئا فشيئا يتحول إلى طاغوت، ويعبد ذاته لذلك لم تروي هذه الأحاديث عن الحلم والمداراة والاهتمام بالآخرين بهذا الكم الهائل في ديننا الحنيف هباء !
في مداراة الناس ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): ثمرة العقل مداراة الناس.
وقال (عليه السلام): دار الناس تأمن غوائلهم، وتسلم من مكائدهم.
لأن الحياة لا تختصر بالعيش في هذه الدنيا أياما معدودة بل الغاية الكبرى بأن يزكي الانسان نفسه ويروضها كما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): وإنّما هي نفسي أروضها بالتّقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر.
فالمكان الوحيد الذي باستطاعة الانسان أن يشعر بارتياح من نفسه عندما يغمض عينه ويموت، يقول نبينا يوسف: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، فهذه النفس تبحث عن الراحة لذلك تأمرنا بالطغيان إلا عندما يعرف الانسان حدوده وغاياته ويبحث عن الكمال الروحي في هذه الحالة يعرف بأن ثمن هذه النفس الجنة ورضوان الله ولا يبيعها بأقل من ذلك.
إذن لا مجال للطغيان والأنانية فالتاريخ مليء بأسماء أعظم الطغاة والجبابرة والبروج المشيدة وقصورهم و … هؤلاء جميعهم قد سُحقوا ولم يبقى منهم سوى أسماء يشمئز منها التاريخ، وسودوا صفحات التاريخ بطغيانهم وعمي قلوبهم ، وفي المقابل نجد الآيات والروايات التي تحث على التعديل في السلوك والتواضع، قال تعالى في محكم كتابه الكريم : (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ).
وورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة.
وعنه (صلى الله عليه وآله): من تواضع لله رفعه الله، فهو في نفسه ضعيف وفي أعين الناس عظيم، ومن تكبر وضعه الله، فهو في أعين الناس صغير وفي نفسه كبير، حتى لهو أهون عليهم من كلب أو خنزير.
من هنا ندرك أهمية التعامل مع النفس ومع الآخرين بالشكل الصحيح، لا يسحق الانسان نفسه بسبب أفكاره ومشاعره السلبية كي يحطم قدراته ويشعر بأنه لا شيء، ولا يفكر بأنه محور الكون وعلى الجميع أن يعبدوه.
بل يسعى لتطوير ذاته وايصال هذه النفس إلى الدرجات العلى ونيل الدرجات الرفيعة كما فعلت أم البنين (سلام الله عليها) إنها تعلمت دروس المعرفة بإتقان ورفعت مستواها وأصبحت باب الحوائج، منذ اللحظات الأولى عرفت بأن مع من يجب أن تتواضع وتنكر ذاتها ومع من تتعالى.
عندما دخلت إلى بيت أمير المؤمنين طلبت بأن يغير أمير المؤمنين (عليه السلام) اسمها كي لا يتأذى أولاد سيدة نساء العالمين ، وبعد ذلك أصبحت خادمة لهذا البيت المبارك وأخذت وسام الشرف لتدخل من ضمن النفوس المطمئنة الى الجنة وتحصل على تلك الوسامات الثمينة.
وبعد واقعة الطف نكرت ذاتها وأولادها وكلما أخبرها بشر عن أولادها سألت عن امام زمانها مولانا سيد الشهداء (عليه السلام) ، لمّا دخل بشير المدينة لينعى الحسين (عليه السلام)، التقى بأُم البنين ـ وهي أُم العباس ـ فقال لها: عظّم الله لك الأجر بولدك عبد الله، قالت له: أسألك عن سيّدي ومولاي الحسين، قال لها: عظّم الله الأجر بولدك جعفر، قالت له: أسألك عن سيّدي ومولاي الحسين، قال لها: عظّم الله لك الأجر بولدك عثمان، قالت له: أسألك عن سيّدي ومولاي الحسين، قال لها: عظّم الله لك الأجر بولدك العباس، قالت له: أسألك عن سيّدي ومولاي الحسين، فقال: عظّم الله لك الأجر بأبي عبد الله الحسين، فصاحت ولطمت خدّها، وشقّت جيبها ونادت: وا حسيناه وا سيّداه.*١
المحور صاحب كل زمان وفي هذا المكان والزمان هو حجة الزمان (عجل الله فرجه)، ونكران الذات هنا يعني نيل الدرجات العلا، سلام على العارفة حق امام زمانها والمضحية بنفسها وأولادها لأجل مولاها (سلام الله عليه) وحين دخلت باخلاص إلى بيت الوحي وحين زرعت ذلك الاخلاص والأدب في نفوس أولادها ، وحين زلزل العباس زلزالا في واقعة الطف، وحين بكت وأندبت، سيد الشهداء (عليه السلام) وفازت فوزا عظيما.
اضافةتعليق
التعليقات