فسّر علماء التطوّر البشري دورة حياة الإنسان الأوّل وعرفوّه على أنهُ مخلوقٌ بدائي البيئة والقيم، حيث جردّ العلم الحديث أوليّات البشرية من معاني انبثاقها وجعلوا الدائرة المغلقة هي ميدانُ أناس الكهف التي تقوم على أولوية عيش الإنسان لذاته وملذّاته.
فلم تنشأ فكرة القيم الأخلاقية في منظورهم، حتى بدايات التطور والتي قامت على خطوة الزراعة التي أهّلت الإنسان إلى التفرغ والالتفات إلى المعنى الآخر للتجربة الأرضية، فتوسعت دائرتهُ لتشمل العائلة والوطن والانتماء وأهمية الحفاظ عليها شرعاً وشعوراً.
أما تفسير الفطرة لأسس الدورة البشرية كان مختلفاً، فكان حديثُ القرآن عن الإنسان الأول وهو نبينا آدم (عليه السلام) حديثٌ يرسم لوحة الوجود، وهي الجزء لأجل الكل والكل لأجله إن اقتضى الأمر، فكانت مهمّته الأرضية هي حفظ عهد السماء في روحه وصلبهِ لأجل جموع البشر والجهاد من أجلها بالصبر وامتطاء الألم.
وقامت فيما بعد فكرة الجهاد من أجل ركائز الإنسان، إما لأجل عرضه أو أرضه أو دينه وحتى ماله، وتعززت بتجلّي الإسلام وقواعده الرصينة، حتى بات الجهاد حاجّة مُلحّةً لقيمومة الدين آنذاك ولأجل إيصال كلمة التوحيد والدفاع عن نبيّها، فكان في أوج وجوده في جموع المسلمين حتى تحقق بهِ استقرار الإيمان والمؤمنين.
وعندما هدأت سنابك الخيول واستقر حَجرُ الإسلام، أسسَّ النبيُ الأكرم (صلى الله عليه وآله) عنواني الجهاد الكفائي والجهاد العيني؛ والذي يشرح أولهما جهاد البعض من أجل الجماعة ويقومُ ثانيهما على استنفار المجتمع بأكمله، ولقد طرح نوعاً آخراً لم يذكره على الملأ بل اختصَّ بهِ المعصومين (عليه السلام) بعينهم إذ لا يحملهُ غيرهم .. وهو الجهاد التراكمي.
قامت منظومة العصمة على هيكلة الجهاد الفردي من أجل مجتمع اليوم ومجتمع المستقبل، باختلاف أشكال هذا الجهاد وقد بدأ منذُ نُطق أبينا آدم (عليه السلام) بالأسماء الخمسة وهي عهدهُ إلى خالقه بأن يكون عضواً من تلك المنظومة، فالجهاد التراكمي هو تصدّي القائد بفرديته لكل أزمات المجتمع، مما ينتج عنهُ زراعة بذور تستكمل سقايتها من القائد الذي يليه، وهكذا توارث الأنبياء جهادهم حتى وصل إلى مُستقره وهو بيتُ الوحي والتنزيل.
لقد قام كل الأئمة بدورٍ يختص بهِ أزمة مجتمعه ويعمل على فك كل أواصرها مرافقاً بذلك الرفض الجمعي والسلطة الحاكمة آنذاك، ولقد اختص الإمام الباقر (عليه السلام) مع ولده الصادق (عليه السلام) بالأزمة الفكرية التي تفشت يومئذٍ بالمجتمعات الإسلامية حتى نخرت بوجودها كل الأسس و أردت الأفراد بين شاكٍ ومُلحد.
فإحياء الكلمة بعد موتها أمرٌ يتطلب روحاً مُناضلة تختبر بصبرها كل التشكيكات والحركات الفكرية المنحرفة التي استفحلت في جسد الأمة وتنادي صوت الفطرة فيه، فلم يكن الإمام الباقر (عليه السلام) مُعلّماً فُسحت لهُ الأمكنة لإلقاء علمهِ فحسب بل كان خبيراً سياسياً في اختيار العلم المناسب للوعاء المناسب، فالعالمُ الذي يُسأل عن مكانته فيردُّ بأنه :"ليسَّ من جُهّال الأمة" ماهو إلا عالمٌ رباني يُجاهد بعلمهِ حتى تتفقهَ الرعيَة.
فقد ازداد دور الإمام الباقر (عليه السلام) في أهميته في كونهِ يُلقي العقيدة في النفوس بمسألة النفوس ذاتها، فلم يُعنى العلم بمكانة مرموقة إلا لأنه بابٌ من أبواب العقيدة وليس درباً لها، وهذا ما حاول مولانا الباقر (عليه السلام) على إيصاله في مدرسته والتي كانت المدرسة الإسلامية الأولى في التاريخ، والتي عملَ بها على قولبةِ الإيمان بالسؤال والبحث.
حتى بقرَ روحَ العلم فصار روحهُ وباقره ودليلاً عظيماً على انمحاق العلم وأصله إن لم يُربط ببارئه، ودليلاً أعظم على أن الدين لم يَضعُف يوماً على ترجمة سر هذا الكون وفتح شفرته، فلقد توغل علم الإمام الباقر (عليه السلام) في الكون برمّته حتى نطق بكل العلوم التجريبية من الطب والعلوم الفلكية والفيزيائية والفلسفية مؤسساً بذلك الحجر الأول للمجالات المستقبلية، ومبلوراً جهاده للأجيال التي تنتظر الأصول وتعمل على تفريعها حتى أدّى جهادهُ بتراكميةٍ متفردة تنبعُ في كل يومٍ بزلالٌ ليس لهُ نضير.. فسلامٌ عليهِ يوم ولِد ويوم يموت ويومَ يُبعثُ حيّاً.
اضافةتعليق
التعليقات