في دعاء الجوشن الكبير ننادي الله تعالى بهذه النداءات الأربعة المتسلسلة المتتالية، فنقول[يا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ يا طَبيبَ الْقُلُوبِ يا مُنَوِّرَ الْقُلُوبِ يا اَنيسَ الْقُلُوبِ](١)، فلو تأملنا في هذا الترتيب لوجدنا فيه تعريفا لكيفية تعامل الله تعالى مع قلوبنا، فما هذه النداءات إلا مراحل أربع نُدخل بها قلوبنا واحدة بعد الأخرى.
حتى يصبح هذا القلب قلب إلهي، قلب مفتوح كما تعبر الرواية، فعن الثمالي عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: "القلوب ثلاثة: قلب منكوس لا يعثر -أي لا يعي- على شئ من الخير وهو قلب الكافر، وقلب فيه نكتة سوداء فالخير والشر فيه يعتلجان فما كان منه أقوى غلب عليه، وقلب مفتوح فيه مصباح يزهر فلا يطفأ نوره إلى يوم القيامة وهو قلب المؤمن" (٢).
إذن القلب الذي تتحدث عنه الفقرات الدعائية هو أشد القلوب مرضًا، ففي ذلك أمل إن قلوبنا بأي حال كانتْ أو أي مرض فيها كان، يمكن أن تنال عناية ربها، وهو الذي يتولى إصلاحها وقَلبِه من هذا الحال إلى أحسن حال، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن ترديد مثل هذه النداءات في لحظات إقبال القلوب هي جالبة لمثل هذه العناية عندما يبتعد الإنسان في يوم من الأيام ويعيش حالة الإدبار والنكوس القلبي.
فالقلب المُنكَسْ هو القلب السقيم ذو الظلمة الذي يحتاج إلى أن يُعرض على طبيب القلوب لِيُعالِجه، هو كالوعاء المتروك فيه ثقوب وأوساخ ولعله متصدئ وفيه كسور. كيف لا! وفيه جراحات الذنوب والمعاصي، فيه ثقوب الغفلات وقلة الحياء، فيه أوساخ الآثام والخطايا.
والأخطر هو أنه ما وصل إلى أن يكون هكذا إلا لأن صاحبه لا يعترف بِبُعده ولم يُقِرَ بذنبه ولا يبحث عن هداه ورشده، هنا يَحجِبُ نفسه عن نور الهداية ويرى الظلمة نور*. لذا هو محتاج إلى لطف وتولي إلهي مباشر، فكانت أول مرحلة لإيصاله إلى القلب السليم هو أن يُقْلَبُ باتجاه النور، والفاعل هنا هو مقلب القلوب سبحانه وتعالى.
وهكذا بعد القَلبْ تَحصل المعالجة، يحصل تفريغ وتنظيف القلب وترميمه ليصبح كالوعاء الذي أعيد تصنيعه بعد تلفه، وهنا لا يعني ذلك أن كون الله تعالى طبيب لا يتطلب منا أي دور أو فعل كلا! بل الأمر يتطلب وجود ايمان وتسليم بهذا الطبيب، استعمال الدواء الذي يصفه لنا، فبالانابة يلجأ المريض إلى الطبيب، وبالاستغفار الواعي تتحقق التوبة الصادقة التي تنظف القلب وتداويه.
وهكذا يصبح القلب متوجها ونقيا سليما مستعدا لتلقي النور الإلهي النازل عليه من العلي الأعلى، لذا أتت لفظة منور القلوب لا نور القلوب، فهنا النور ينزل ويستقر في القلب فيصبح القلب نورانيا مشعا بالنور الإلهي، لا فقط متوجها للنور الإلهي أو مُتعرضا له.
وعندئذ يصل القلب إلى المرحلة الأخيرة أي يكون من أهل الأنس بالله والاستئناس بذكر الله تعالى، يكون مشعا مفعما بالحياة، يصل إلى القلب الثالث الذي وصفته الرواية: "بالقلب المفتوح فيه مصباح يزهر فلا يطفأ نوره إلى يوم القيامة وهو قلب المؤمن".
—————
(١) مفاتيح الجنان.
(٢) بحار الأنوار: ج ٦٧، ص ٥١.
* فكما يعبر سماحة المرجع المدرسي في أحد دروس تفسير سورة مريم "أن الإنسان عندما يخطئ يحصل في قلبه نكتة سوداء، ولكن عندما يبرر لخطئه يحصل هناك حجاب على قلبه، يحجبه عن استقبال وتلقي نور الهداية، وهذا هو حال القلب المنكوس"(بتصرف).
اضافةتعليق
التعليقات