في آنية النعمة، تنتظر الوديعة بعض آيات عصماء لتبدأ صلاتها بإسم الله، اسمه الأعظم، يوم ممهور بالرحمة والغدق على من عانق العهد لصوم الجوارح، فرضا موقوتا، عز ونور لهدى اليقين وحياة لوجع الماء حين تجف قطراته.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾. [ سورة الأحزاب: 9]
طريق الكلمة، عرائس تعانق الخير وتهدي العفو، وتكتب للخطى أجرا..
أقبل علينا شهر الرحمة، شهر أثقله الله سبحانه بالأعمال الصالحات، وأختام الذاكرات، وأرتواء على ظمأ زكاة لجسد الجهد..
في عدة أكتمال هذا الشهر الفضيل، تحوم النفوس حول القرآن الكريم و يزداد الطلب بإلحاح لأدراكه وغور أسباره وفهم أعماقه و يلتزم الصمت مطرقا بخلده بنهم ثوابه وإحراز شفاعته على امتداد أيامه ولياليه ، تسبيحة انسان ، وجفاف فم المقال من إرتياد كل معصية.
« إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ » سورة الشعراء.
رهان المنبر يبدأ نشاطه لقول كلمة الحق، همهمة الصدور يلامسها شعور مفعم بالراحة والاعتقاد ، فكل قلب يحاكي نفسه ، يبكي على ذنبه ، بدلالات و إشارات ومواعظ من الكتاب، و باب السماء عامود مفتوح بابه لأجابة كل طلب و لقبول الحسنات لآلئ من حظوظ تنثر على من تعثر ضميره واعترف بذنب الايام واللحظات ، العقل ينذهل بالعبرة ، والنفس لا تشفى الا بالمجازفة ، والمعاناة لا تكون درسا الا إذا تعثرت بمقالب الحياة واتعظت، والقلب لا ينتظم نبضه الا إذا سانده الواقع بموقف يطمأنه، وفي كل الأحوال، الكرة في ملعب من ساندته الحياة حتى يتخطى مراحله بعمق سليم، وشهر رمضان الفضيل فرصة ثمينة لتحقيق ما ذكرناه .
« فدعا ربه اني مغلوب فأنتصر ، ففتحنا ابواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر» سورة القمر.
حقا انها لأجواء لانظير لها على امتداد ايام الصيام والقيام ، الشعور بالأمان ، ذوبان الحواجز، هدوء النفس، أغتنام فرص، نشاط على أمتداد العطاء، عطش مسالم ، صوم غير مزاحم، همة عالية ، احتواء القرب السماوي ولطفه، وسحر مائز بأدعيته، ولقاء الأحبة، ومحاور علم، ندوات محافل للصائم وتطوير فكرة، تحقيق أماني وابتسامة لا تفارق كل صابر وقانع وعهدا صارم منه لردع الشيطان وأغوائه.
« نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر » سورة القمر .
وكأن العالم في شهر رمضان يصنف كفتان، كفتة في الجنان، وأخرى في وحل الظلام .
إنها الحرب أيها السادة على النفس والهوى ذو مرة فاستوى، شهر عد لبناء شخصية المؤمن وإصلاح ذاته وقيمومة أخلاقه وكيفية تعامله على مدار حياته وتحديث لسلوكياته بأفق جديد ، وحرف مفيد، وخلق رقيد وفعل رشيد، ورسم خارطة طريق ممتدة الامد والاثر الجميل.
في شهر رمضان تطرق الهمة الابواب ، لبلوغ الحكمة كل دار، والعافية مدار الطلب فيه ، يستقر غيثه ضيفا على أعتابه، ليضمن النعمة من سفرة الأحباب.
تستيقظ الحشارج على آذان طبول السحر وتكتمل حلقة الوصل بين غصة المائدة وسجادة الشكر ويبدأ التكبير والتهليل حتى أنه لا يفارق أنفاسهم ماداموا فاكهين بكلمة الحمد ابتداء ، اللهم اني أسالك ببهائك بأبهاه وكل بهائك بهي ، حتى موعد القدرة وبهاء الحضور فيبدأ زئير مدفع الطاعة في أداء دوره غسقا حتى تخالج ربوة صوته مخدع الصائمين أن هبوا لأداء الصلاة وإيتاء الزكاة فتتقاسم البركة فيه لقمة الإفطار ولسان المؤمن يطلب فرجا وغفرانا وتجاوزا لكل المساوئ والأسوار.
رب اغفر لي وتب علي انك انت التواب الرحيم. «عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أعطيت أمتي خمس خصال في شهر رمضان لم يعطهن أمة نبي قبلي.
أما واحدة فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله عز وجل إليهم ومن نظر الله إليه لم يعذبه.
والثانية: خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك.
والثالثة: يستغفر لهم الملائكة في كل يوم وليلة.
والرابعة: يقول الله عز وجل لجنته: تزيني واستعدي لعبادي يوشك أن يستريحوا من نصب الدنيا وأذاها ويصيروا إلى دار كرامتي.
والخامسة: إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان غفر الله عز وجل لهم جميعا فقال رجل: يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال: لا أما ترون العمال إذا عملوا كيف يؤتون أجورهم؟ »**
في عموم الردهات الممتدة على مد بصر الاجتماع يجتمع الفضلاء الصائمين ، حول الكلمة ، ويدور النقاش لفهم معاني الحياة ، فتدنو الفضيلة لمشاركة الحوار ، ويتكلم القرآن الكريم بكل ثقة واقتدار، عن حبه للأبرار وقصص الايثار ، ويفصح عن تنزيله وتأويله ، وترهيبه وترغيبه ، وكل زواياه المتقدة حكمة ومعرفة .. فيفرض التفسير نفسه سيدا للحضور ويشاركه كل فطين فيتلذذ بمشاهداته القيمة ويستعين بالنقاش ليتدبروا بقراراته الحاسمة تضفي لذهن المستمع اعتبارات خاصة تفيد حياته العامة.
فينطق بسورة الحمد آية باهرة ويتبعه حجم التكبير في كل سورة ، وتعرب أجزاءه
أن كل فصل فيه معجزة أذهلت كل النواظر .
وكذلك دعاء الافتتاح ، سندا روائيا لمنزل الإتباع والإجماع ودمج الشعور وإيواءه بيت الاحساس مسحة لامتناهية من الخضوع وجمال التسليم تتقاسمها الدمعة وتقر بها عظمة مفرداته.
في شهر رمضان الكريم ، نكتسب من النور أسرار كثيرة ، ومن لياليه جوائز قديرة ، ومن الجوشن مساحات وثيرة وغسول للقلب المثخن بالظنون، لتذوب مكدرات النفوس من على أكتاف الندم وشر الرذيلة، وتذهب حيث لاعودة إن شاء الله.
في سورة القدر ، محصلة الكلام ، أنا انزلناه في ليلة مباركة ، دخان عقيم من كل هائمة شك وظنين ننجو بالغفران وحبو الرحمن ، وكل ذلك بفضل شهر رمضان ترتجز الهمسات بالاعتراف من كل خطأ حتى تحوز على أحاطة المنان .
هناك كتب وروايات ومصادر ولائية تفيد الطالع البشري ليتعلم ويتربى وتنمو افكار الهيبة والخشوع فيه حتى تصبح النفوس شفيفة عفيفة لا تشعر بغلظة الأجساد وثقلها على القلب.
في شهر رمضان الكريم ، للمزارات فضائل أخرى فبعد إفطار هني، ويوم غني ، حافل الذكر بالاعتكاف، تحوم النفوس المؤمنة كفراشة أسرها ظل القمر فعشقت نوره ولاذت إلى فصوله لتزور البيت وماحوله ، فزيارة الأولياء في الشهر الفضيل تعد من أولويات عقيدة الموالي الصائم الذائب والهائم عشقا لمولاه ..
فيرتوي نورا وصبرا وعلو مرتبة ونجاة من كل معضلة أحاطت به وآلمت قلبه، من محطات حياته المتخمة بالسلب والتي اعيته عن إيجاد حلول للوقت والمعاش.
فمن يبحث عن كمال أخلاقه، وسمو نفسه مدارج القوة واليقين فليرابط مراقد أهل البيت عليهم السلام ظرفا ومكانا، لأن العمق له متطلبات فخيمة تختلف باختلاف المراحل واستيعابها، فمنهم ينساب كل الخير، وتعمر القلوب ، وتتوسع الآفاق فيكون بعد النظر منسوب إليهم، لأنهم الماء والخبز والنجاة من جوع الفكر والحياة.
شهر رمضان الكريم كفيل لإعادة حسابات كانت قد طويت غباءا من بعض المذنبين ، غيبة ، نميمة ، بهتان ، فتنة، كذب ، خيانة ، غش، تباهي ، غرور ، تكبر ، رياء ، تجاهل مفرط ، غضب ، إصرار على الذنب ، تملق، خباثة ، وما لا يتناهى من السلوكيات التي أعيت خاطر الفرد الصائم المؤمن في سجل الأيام الغابرة ، لتبرمج روحه من جديد حتى يصفى وتذوب الحواجز المانعة منها تحت شعار حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
فليستعد كل مؤمن ومؤمنة لاستيعاب هذا الشهر الفضيل بكل ما أوتي من قوة، وليبدأ العهد مثولا أمام محكمة الطاعة الإلهية ليستقبل هذا الشهر يوما جديدا، بحلة فاخرة، وصوم لا عتاب عليه، وختم قرآن يختلف عن غيره من أختام الشهور اللاحقة والسابقة، وليكن عملنا فيه خاتمة لأحزاننا وعصمة لمساوئنا، وصومنا قوة لقلوبنا وحبا وقربا لخالقنا وطاعة لأوليائنا، ودعوة إصرار لتعجيل ظهور إمام زماننا المنتظر الغاىب (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
اضافةتعليق
التعليقات