لا يهتدي المرء إلا وفق فطرة سليمة ونطفة كريمة، ولقمة عقيمة من الحرام والشبهة ..والإيمان لايتقوم إلا بإتباع منهاج الأئمة المهديين.. واتخاذ خطواتهم سلما للفلاح في حياة الصعوبات والمحن .حتى تستكين جمل القوة وتتخذ لها مقاما محمودا، لابد وأن تتشبع الروح بأنوار أهل الوجود وثبات الشرع أهل البيت (عليهم السلام) .
الطاقة مرتبطة بإيمانية الفرد، فكل آية ورواية في كتاب الله ومصادر تفسيره، لها نور يستقطب القلوب الوجلة والمغمورة بحب بيت الآل، فإن استقرت فيه ألهمته فيضا مشبعا ساجدا قادرا على ردع كل قول مخالفا لأهل بيت العصمه عليهم السلام .
في ذاكرة الحزن، وإقبال الدمعة على فقد العظمة، تفتقد اليوم قلوب الشيعة إمامهم الهمام، الهادي النقي سلام الله عليه، وافاه الأجل مسموما شهيدا غاضبا على من عادى بيت النبوة والرسالة.
إن الإمام الهادي (عليه السلام) له مكانة لايرتقي لها ممن عاصروه، وأي مخلوق كان فهو الكائن الغيبي الذي يسير في الأرض، لأنهم الامتداد الطبيعي المباشر لجدهم الرسول الأعظم، هم الأمناء على رسالة السماء وهداية الإنسانية أجمع، فكانت بوابتهم مائزة غيب لا يكشف عنها بحرف وجملة، بل هم أسرار الله في أرضه وهم المتفوقون علما وفقها وحكمة، وكل المكارم والفضائل .
حباهم الله سبحانه بجميل صفاته وكمالاته ..حتى جعل من مجالسهم منطلق لكل علم وسجية، ومن محافلهم سفينة نجاة لكل شيعتهم ومن اقتدى بهم كما هو الإمام الهادي النقي )عليه السلام).
كان مسير الإمام عليه السلام، ذا نظر ثاقب منبعه من أصل الشجرة لا من فرعها، فكما كان جده علي (عليه السلام) باب علم الله وخزانه، فإن عمله كان نبذة من أساس المعرفة والعقيدة، موروث رحماني تجسد في شخص الإمام الهادي سلام الله عليه.
كانت الفكرة في صلبه، كعصى موسى، لا تتردد في أداء المعجزة، وثبات القلوب يوم تقلبها، حتى وثق كل كلمة مكانها المناسب، ومعرفة جلبابها الشاخص، ورد كل أباطيل الجبر والتفويض وعرف مواليه طرق الخلاص من كل ضلال .
وقد قال عنه ابن شهر آشوب: كان الإمام - أبو الحسن الهادي - أطيب الناس بهجة، وأصدقهم لهجة، وأملحهم من قريب، وأكملهم من بعيد، إذا صمت علته هيبة الوقار، وإذا تكلم سماه البهاء، وهو من بيت الرسالة والإمامة، ومقر الوصية والخلافة، شعبة من دوحة النبوة منتضاة مرتضاة، وثمرة من شجرة الرسالة مجتناة مجتباة .
هذا اليراع الذي خلفة الامام وهو الحجة ابن الحجة إنما هو موروث تقلده من آباءه البررة، مع اختصاصه بالعناية الغيبية المباركة .
وقد ورد عن الشيخ المفيد (رحمه الله): كان الإمام بعد أبي جعفر(الجواد) ابنه أبا الحسن علي ابن محمد، لاجتماع خصال الإمامة فيه، وتكامل فضله، وثبوت النص عليه بالإمامة.
كان زمن الإمام (عليه السلام)، مصاب بالضجيج الفكري، والتربص والتلبسات المكتظة، وما داخلها من معارف علمانية، هابطة المحتوى، هدفها الوحيد محو الدين وإبادة أهله، ورسم خارطة مشبوهة، قائدها فرعوني متزلف.
هذا الوضع، أولد ثقلا على كاهل الإمام ومسيرته فهو من جهة كان يواجه أئمة الضلال ومحاسبتهم علميا وفكريا، ومن جهة أخرى يمد مواليه فضائلا وأخلاقا وتربية، وتأهيلهم للواقع من منطلق عقائدي متين ..
وللإمام الهادي (سلام الله عليه)، من العلم الحضوري مالم يصل إليه من الاعلام في زمانه وهو ابن ست سنين .. حتى أخذ بلب الفؤاد وسجدت له مقامات وأصحاب أثر ..
روى المسعودي بإسناده عن الحميري، عن محمد بن سعيد مولى لولد جعفر ابن محمد، قال: قدم عمر بن الفرج الرخجي المدينة حاجا بعد مضي أبي جعفر الجواد، (واستشهاده على يد المعتصم العباسي طالبا منه أن يجد عالما مبغضا لأهل البيت حتى يعلمه ويغذيه على بغض أجداده وهو ابن ثمان سنين أو ست).
فأحضر جماعة من أهل المدينة والمخالفين المعادين لأهل بيت رسول الله، فقال لهم: أبغوا لي رجلا من أهل الأدب والقرآن والعلم، لا يوالي أهل هذا البيت، لأضمه إلى هذا الغلام وأوكله بتعليمه، وأتقدم إليه بأن يمنع منه الرافضة الذين يقصدونه .
فأسموا له رجلا من أهل الأدب يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالجنيدي، وكان متقدما عند أهل المدينة في الأدب والفهم، ظاهر الغضب والعداوة .
فأحضره عمر بن الفرج وأسنى له الجاري من مال السلطان، وتقدم إليه بما أراد، وعرفه أن السلطان أمره باختيار مثله وتوكيله بهذا الغلام .
قال: فكان الجنيدي يلزم أبا الحسن في القصر بصريا، فإذا كان الليل أغلق الباب وأقفله، وأخذ المفاتيح إليه، فمكث على هذا مدة، وانقطعت الشيعة عنه وعن الاستماع منه والقراءة عليه، ثم إني لقيته في يوم جمعة، فسلمت عليه، وقلت له: ما حال هذا الغلام الهاشمي الذي تؤدبه؟ فقال منكرا علي: تقول الغلام، ولا تقول الشيخ الهاشمي! أنشدك الله هل تعلم بالمدينة أعلم مني؟ قلت: لا .
قال: فإني والله أذكر له الحزب من الأدب، أظن أني قد بالغت فيه، فيملي علي بما فيه أستفيده منه، ويظن الناس أني أعلمه وأنا والله أتعلم منه. قال: فتجاوزت عن كلامه هذا كأني ما سمعته منه .
ثم لقيته بعد ذلك، فسلمت عليه، وسألته عن خبره وحاله، ثم قلت: ما حال الفتى الهاشمي؟ فقال لي: دع هذا القول عنك، هذا والله خير أهل الأرض، وأفضل من خلق الله تعالى، وإنه لربما هم بالدخول فأقول له: تنظر حتى تقرأ عشرك .
فيقول لي: أي السور تحب أن أقرأها؟ وأنا أذكر له من السور الطوال ما لم يبلغ إليه، فيهذها بقراءة لم أسمع أصح منها من أحد قط، بأطيب من مزامير داود النبي التي بها من قراءته يضرب المثل .
قال: ثم قال: هذا مات أبوه بالعراق، وهو صغير بالمدينة، ونشأ بين هذه الجواري السود، فمن أين علم هذا؟ قال: ثم ما مرت به الأيام والليالي حتى لقيته فوجدته قد قال بإمامته وعرف الحق وقال به، وفي سبع سنين من إمامته مات المعتصم في سنة 227 هـ ولأبي الحسن أربع عشرة سنة.
هذه هي نبوءات القدرة، وكرامة الغيث، أن تكون هي الأقوى غيبا، وأطيب خَلقا وخُلقا، والأصفى من هم على وجه الأرض من خليقة ..أن تواجه الطاغية برسالتها دون خوف أو تأتأة، بل كل الحزم والجرأة مازال حب الله هو رصيد كل خطوة، كما هو الإمام الهادي النقي أرواحنا فداه .
اضافةتعليق
التعليقات