بمشهد يقارب أن يكون أبيض وأسود ويد متكئة على حافة المقعد، بينما أصوات الملاعق وهي تصافح أقداح الشاي ترن رنة خلخال في وسط ليلة مقمرة هادئة، رفع الجد يداه المنحوتة عليها خارطة الوطن وبأطرافها الجلد يتجمع على هيئة صورة عائلية لوقت العصر بباحة الدار، وبدأ يحرك بحباة المسبحة مستغفرا وهو ينظر إلى الشباب الذين يجلسون أمامه بنظرة شفقة وهو يراهم مشغولين بهواتفهم النقالة، وجدال عقيم يدور بينهم حول التحليل والتحريم حتى انتفض أحد منهم وقال بلهجة شعبية (اهو صار براسنه متدين)، ابتسم الجد وقال لهم: مهلكم على أنفسكم يا أبنائي انتقوا الكلمات بروية، الدين حب، وكما يتحدث الأستاذ د. عبد الجبار الرفاعي "عبر الحب الإلهي يرتوي المرء أنطولوجيا، وحين يرتوي المرء أنطولوجياً يصبح قلبه منبعاً للحب، أي يكون الحب هو وهو الحب".
كثيرا ما تواجهنا مثل هذه المشاهد في حياتنا اليومية ملخصها إن أردت شيئا يبرز جمال الدين قال الأغلب من حولك: رجاءً لا تكن متدينا الآن، بلهجة ساخرة، وكأن مصطلح (متدين) مخجل، بينما لو طرح حديث مستهلك وقرارات استنفذت أصولها واقتربت من اباحيتها يكون الحديث مقبولاً إلى حد ما مع مبرر (حشر مع الناس عيد)، فيخطر السؤال التالي على اذهاننا.
ماهو معنى متدين من وجهة نظرك؟
نسأل هذا السؤال لأننا لاحظنا أن هذه الكلمة تقال بطرق مختلفة وكأنك تحذر المقابل منها كأن يكون قولك «دعك منه إنه متدين» لا أعرف أين الخلل هل هو سلوكه أو مظهره ليشعرك بأن أغلب الناس تتعامل مع الكلمة وكأنها شتيمة أو تهمة.
قبل أن نجيب على هذا السؤال، يجب أن نوضح بأننا لا نستطيع أن نتفاعل مع أية ظاهرة مالم نعرف الأسباب لتلك الظاهرة، ودراسة الأسباب خطوة غير معروفة وقد تكون غير مقبولة لدى أغلب العرب لأنهم اعتادوا على أن يحكموا على الأمور بناءً على ما يرضي مفاهيمهم الخاصة وإن كانت خاطئة.
ربما إن من أول الأسباب الواضحة لهذه الظاهرة هو هيمنة فكرة (السائد) ولكثرة ما أصبح الخطأ شيئاً سائداً في المجتمعات العربية أصبح كل مايخص الدين غريب لدى الأغلب وغير مقبول أو بالأحرى مخيفاً بالنسبة لهم لأنه يظهر الجانب المظلم الذي يسلك مسالك الخطأ فيهم، المشكلة لا تتوقف عند من يرفض الخوض في أحاديث الدين إنما عند أولئك الذين ينتقدون ويسخرون من كل شيء يظهر هذا الجانب، حتى تظنهم ذاك الجزء الذي ذكره الامام علي(عليه السلام) في حديثه حينما قال: (وهمج رعاع: أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق)، فخساراتنا كبيرة عندما فقدنا أدب التعبير وأصبحت الأخلاق كأنها ضرب من الخيال، تسافلنا في كل شيء منطقا وأخلاقا بدأنا ننزع جلباب الحياء من أعلى وجوهنا.
ورغم أن الأسباب لا تعد ولا تحصى ولكن أهمها على الاطلاق: هو الإحساس بعقدة الذنب لقيام الشخص أو عدم قيامه بهذا الفعل مما يثير شعوره بالنقص الكامن خلف أفكاره فيهاجم بطريقة ساخرة حتى يتهرب من الموقف، فملة العشق قد انفصلت عن الكافة على عكس ما يكون عشق الله كما يتذوقه المؤمن، فيكون حب الله هو اتصال الروح بعلاقة غير مرئية إلا لصاحبها، وتعجز الكلمات عن وصفها، ولا يستوعب وعاء اللغة أن يضم ويوصف هذه العلاقة، فهي ليس لها هوية دينية خاصة بمجموعة تدعيها، بل مشتركة بين الأديان وإن اختلفت فيها المسالك والطرق.
لكنها تصل لنقطة واحدة، لذلك تذوب وتتلاشى كل أنواع الاختلافات وتتطهر الروح من درن توصيف وتكفير وتجهيل الآخرين، بينما المنتج البشري من الأديان يفرق ويميز ويطرد ويكفر ويبرر قتل الآخر، وفي النهاية إن الموضوع يتعدى أن يكون فاصلا بين جنة ونار إنما هو درجات جنة، فببساطة متناهية الدين للجميع ولا يقتصر على فئة معينة حتى لا يكون لأحد الحق بأن يقول أو يتداول حديثا فيه.
فهو نظام اجتماعي ذو عناصر تتراوح بين الأشياء الإلٰهية المقدسة التي يكون أصحابها أدركوا معنى الدين كاملا، وبين الأغلب فينا من مبتدئين مازالوا يبحثون عن الرضا ويدركوا مسالك الإيمان خطوة تلو الأخرى، فليس عيبا أن يطرح المقصر في دينه كلمة في الدين ولا هو حكر على الكاملين فالكمال لله إنما هو ستر الله الذي لا يظهر عيوب أغلبهم فكان ظله يظلهم كلما زادوا درجة في دينهم وإيمانهم بوجود ذات علوية لها تصرف وتدبير للشؤون التي تعني الإنسان والكون، واعتقاد داخلي من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة وخضوع وتمجيد.
هو الإيمان بذات إلهية جديرة بالطاعة والعبادة، ليتحرر الإنسان من العبودية لغير الله، وهذه القوة تعطيه حصانة من الخضوع والخنوع لباقي المخلوقات، هذا التسليم والانقياد الفطري يقدم للإنسان غذاءً يحاول أن يشبع به النفس المتعطشة للغيب، وكما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته: (يا أيها الناس، دينكم دينكم، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره، والسيئة فيه تغفر، والحسنة في غيره لا تقبل) وقال صلوات الله عليه في نهج السعادة: (لا حياة إلا بالدين، ولا موت إلا بجحود اليقين).
اضافةتعليق
التعليقات