يؤكد الاستقراء التاريخي أهمية الدين الإسلامي في وحدة المجتمعات التي انتشر في ربوعها، وتغلغل في قلوب وعقول معتنقيه، وفي جمع شملها ويعد الركن الأساسي في التماسك الاجتماعي، ووحدة الثقافة والأهداف المشتركة، ونشر روح التسامح والمحبة، والمشاركة الوجدانية بين أنصاره، وسريان مشاعره من المودة والدفء الاجتماعي بين المسلمين الذين آمنوا بعقائده وتشربوا تعاليمه.
وكان الدين الإسلامي عبر تاريخه هو الطاقة الكامنة التي تحرك نفوس المسلمين نحو العمل المثمر والبناء الشامخ والنصر المؤزر، والدافع الأساسي للإقدام والتضحية والكفاح والانتصار على أعدائها الذين تصدوا لتياره وحاولوا عبر التاريخ إعاقة تقدمه، والوقوف أمام أفكاره وعلمائه، وحاكوا في مواجهته المؤامرات التي لم تتوقف حتى اليوم- ولن تتوقف- في مقتبل الأيام وتوالي العصور. ولأن أعظم الأمور قدراً، وأعمها نفعاً ورفداً ما استقام به الدين والدنيا وانتظم به صلاح الآخرة والأولى، لأنه باستقامة الدين تصح العبادة، وبصلاح الدنيا تتم السعادة.
ولا شك أن هذه الصفات تترك انطباعا طيبا في نفوس الآخرين، وتترك آثاراً إيجابية عند المتلقي، وبتطور الأزمان لم يترك الله الأمّة عبثاً بدون تجديد الخطاب الديني ودعوة عباده إلى اَلْهِدَايَة، وإصلاح أمورهم وإعادة صياغة أفكارهم، والحفاظ على الأمّة، فأرسل الرسل والأنبياء وختم بمحمد "صلى الله عليه وآله" وسلم الدين ورضا لهم الإسلام دِينَا، ولأن لا نبي من بعده شاءت حكمة الله أن يختار الإمام علي "عليه السلام" وصيّاً وخليفة للمسلمين بعد عودته من الحج في "غدير خم"، فلم يكن ما جرى في حادثة الغدير محض صدفة أو إرادة شخص بعينه، وإنما هي إرادة سماوية جرى حكم الله سبحانه فيها منذ الأزل، ولكن الإعلان الرسمي لولاية علي بن أبي طالب "عليه السلام" كان في غدير خم في حجة الوداع، في السنة عشرة هجرية.
فكان خير داعية انتجبه الله في صلاح الأمّة ونهضتها. ثم تبعهُ ولده من بعده- أئمة الهدى، في خلافة المسلمين. وغرس حب قواعد الإسلام في قلوبهم وعقولهم واعتزازهم بالرسالة الخاتمة التي حملها سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وما تضمنته من مبادئ قويمة وأهداف جليلة وأسس نبيلة لبناء حياة فاضلة وإقامة المجتمع الفاضل الواقعي الذي يتفق مع حقيقة الإنسان وجبلته، وتكوينه النفسي، ودوافعه الفطرية المتضاربة؛ فبعضها تجذبه إلى الأرض، والأخرى تنهض به من كبوته وترتقي به إلى مصاف الملائكة.
فكانوا هم المشاعل المضيئة في دروب العارفين، والمحافظين على الأمة من الانزلاق في براثُنِ الجهل، وضياع الدين بمرور الزمن كما حدث لبقية الأديان التي سبقته. وهكذا توال حكم المعصومين الإحدى عشر تباعاً في حكم أمة المسلمين بالتثقيف الديني ونشر الفكر الإسلامي في إدارة شؤون الأمة، واجهوا الظلم شردوا وقتلوا وسجنوا؛ بسبب رفضهم للظلم والجور ونصرة الإنسان ليحيا بكرامة، وواصلوا المسير في طريق نهضة دين جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله، حتى آخر أمام، الذي شاءت حكمة الله أن يغيبهُ حرصاً من بطش الأعداء كي لا تخلو الأرض من حجة، الإمام المهدي المنتظر (عجل الله مخرجه الشريف) وحجة الله على عباده.
سلامة الدين في انتظار الفرج
إن أعظم الناس يقيناً، قوم يكونون في آخر الزمان، لم يلحقوا النبّي، وحُجب عنهم الحُجة، فآمنوا به وتمسكوا بدينهم وعقيدتهم، أي آمنوا بأصول الدين وأركانه بواسطة الأخبار الصحيحة التي أخذوها عن أسلافهم، يدل ذلك قوله" صلى الله عليه واله": أفضلُ العبادة انتظار الفَرَج. وذلك أن انتظار الفَرَج يعني الإيمان بالإمام المنتظر، ويعني - بالتالي - الإيمان بالوحدانية والعدل والرسالة، والعمل الصالح المقبول والجامع للشروط التي فرضها الله تعالى.
وجاء عن أمير المؤمنين "عليه السلام" :- (افضل العبادة الصَّمتُ وانتظار الفَرَج). لأن انتظار الفرج إيمان بالغيب يحمل العبد على العمل والتعبُّد بعقيدة متكاملة، ويكون محبّاً للعدل، كارهاً للظلم يوجه نفسه وسائر أعماله نحو ما فيه خيرها وخيرُ الآخرين، فيصبح خيراً مما يقوم بعبادة لاتنفع إلا صاحبها.. والاعترافُ بالحق والجهرُ به ليسا أمراً سهلاً في ظل حكومات الباطل، بل هما بمرتبة الجهاد الصامت، وهما من أفضل التعبُّد الْحُرِّ في دولة الحق.
وفي أحاديث كثيرة في حياة النبي "صلى الله عليه وآله" يروي لنا أن ولدِه من ابنته فاطمة الزهراء هما اثنى عشر وآخرهم الإمام المهدي المنتظر برواية أكثر من حديث وسند.
قال رسول الله "صلى الله عليه وآله":-(المهديُّ من وُلْدي الذي يفتح الله به مشارقَ الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغَيب عن أوليائه غَيبة لايَثبت على القول بإمامته إلاَّ من امتَحنَ الله قَلْبَهُ للإيمان) .
ومعنى قول الرسول "صلى الله عليه وآله" نحن في موضع امتحان وتمحيص، فهل نحن واعيين لهذه المسألة؟. الحقيقة أني أرى أن القضية المهدوية ظُلمت مرتين:
في الأولى بسبب الجهل الفكري لدى بعض الناس في زمن غيبته، فهم لا يعرفون عن إمام زمانهم إلا أنه يخرج في آخر الزمان ويحارب الكفرة والمرتدين، من ثم انشغالهم بالأمور الدنيوية ونسوا نصيبهم من الآخرة، وابتعادهم عن دورهم النهضوي في التمهيد لظهور الإمام وبيان أفكاره وارساء مبادئه، لأنها جزء لا يتجزأ عن الإسلام، فكيف لرجل اصطفاه الله أن ينشر العدل في الأرض للناس يخرج حاملاً أقوى سلاح للقتل ومحاربة الإنسان، فهل هذا حديث لعقلاء؟! إنما يظهر ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد أن تملئ الأرض ظلماً وجورا.
يخرج لصلاح الإنسان ونصرته ويحكم بكتاب الله ودينه. ونحن نلاحظ من هذا القول إلى أي منزلق تصل إليه الأمة في ذلك الوقت الذي ذكره الرسول "صلى الله عليه وآله"، والائمة عليهم السلام.
الثانية: من قبل العلماء والمفكرين والساكتين على الظلم، وغير العارفين عن التبليغ والتمهيد لعصر الظهور بطرق حضارية وأفكار توعوية، وما يتناسب والجيل المعاصر.
من هنا جاء تركيز سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي في كلمته بهذا الخصوص: -( إذا تهاون العلماء في تعريف الحقّ وبيانه للناس، وفي بيان الباطل، ولم يؤدوا مسؤوليتهم كما يجدر في هذا المجال، فيصاب الناس بالحيرة ويضلّوا ويتبعوا الباطل). وهكذا يتبين لنا حجم الدور الكبير الذي يقع على عاتق المثقفين والعلماء. في تنوير فئات المجتمع. ولاننسى أن هناك فِرَقا مضادة تحاول النيل من المسلمين من خلال بث المعلومة المغلوطة، وترويج الثقافات المناوئة، ومن هنا كان الجهد مضاعفاً من أجل فضح الدسائس المعادية. ولأهمية عصر الظهور وانتظار الفرج قال رسول الله "صلى الله عليه واله" : - (أفضلُ العبادة انتظار الفرج)- يعني الإيمان بالإمام المنتظر، بمعنى أن أعظم الناس يقيناً، قومٌ يكونون في آخر الزمان، لم يَلحقوا النبيّ، وحُجب عنهم الحُجة، فآمنوا بسوادٍ في بياض) الوسائل.. ص١٧٩.
أي آمنوا بما وجدوه مسطوراً في الكتب بدءاً بتوحيد الله والاعتراف بصفاته الثُّبوتيَّة، والإنتهاءً بالإيمان بالنبوَّة فالولاية فالبعث والحساب. أي الدين وأركانه. بالتالي - الإيمان بالوحدانية والعدل والرسالة، والعمل الصالح المقبول الجامعَ للشروط التي فرضها الله تعالى.. والإيمان شرطٌ في صحة قبول العمل إذ جاء في الحديث الصحيح السند عن الصادق عليه السلام قوله بخصوص الولاية: -( بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ: على الصلاة ، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية) .الوسائل( م١ح١٠ص ١٠وم١٨ح١٤ص٢٦ والكافي م٢ص١٨).
إذن لابد لنا من تجديد الخطاب الديني والقضايا المهمة لعقائد الدين وتشريعاته وبصياغة جديدة وواعية، ولايحدث ذلك دون مواكبة الأحداث التي نعيشها، أن نعرف أكثر عن الأدلة الدامغة وتدبر الحجج لمواجهة المشككين في ظهور الإمام، وبيان الهدف من الغيبة.
ولابد من ثقافة فكرية لرد الشبهات التي تطال زمن الغيبة وتشذيبها من العوالق والخزعبلات، وقد تنهال على رؤوسنا هنا وهناك بعض الأسئلة حتى أنك تشعر بالغربة، من حديث بعض شيوخ الصدفة وأسميهم أنا المغرضين فكل جاهل يتكلم بدون معرفة أو فهم تبعات مايقول، هو يُسيء إلى ذات الله، وأولياءه الصالحين. وخاصة عند ذكر روايات وأحاديث مغلوطة وما لُحق بتفسيرها من زوائد، أو تكرار الرواية كما هي كل عام ودون إضافة جديدة، وتفسير توعوي ثقافي ينم عن خبرة، محملة بجو من الأساطير والغرائب والعجائب.
وكما أنّ الجيل خرج من قوقعة الثقافة المنغلقة، وأخذ يبحث ويتقصى عن تاريخه ومعلوماته، والبعض الآخر ابتعد عن جوهر ومسؤولية ومفاهيم الإنتظار والدور المنوط إليه في هذه الفترة. والمتابع، للساحة الفكرية العربية، يستشعر أن هناك جهات معلومة مهتمة بمحاربة الإسلام والفكر المستنير والتشيع بصورة خاصة. ووأد كل تفكير حر يدعو إلى تغير الواقع البائس وتعمل على تخدير العقل المسلم وتغييبه كلية، وتقحمه في متاهات ورؤى جديدة بحجة تطور الحياة والعلم؛ بحجية قدم تلك الشرايع المناهج التربوية الدينية. وما وجه الاحتجاج والرفض لا بأن يتطور الإنسان ويستنير بالأفكار الجديدة! ولكنه قد ينبري من يقول: ماهذه العقيدة البالية التي جئت تنشرها على الملأ المتحضّر في عصر العلم والنور؟!
بَلى، ونَعم.. إنها لعقيدة قديمة ولكنها لاتبَلَى، لأن عمق الحقيقية في التأريخ، وإمعانها في القِدم لن يفسدانها. ولابدّ أن يلعنها قائلُ حقَّ، بجرأة مطمئنة صادقة ولو قلّ النصير.
فلابد من مخلص، وظهور للموعود لنصرة هذا الدين. والأخبار التي وردت بشأنه مّرت على أذهان جهابذة الفكر منذ حوالي ستين قرناً! وبقاؤها سليمة مسلْمة يوجب القطع بها ويفيد الجزم. وللقدامى منّا الشكرُ إذ حافظوا على إيرادها كما هي، ونقلوها نقلا أميناً بالرغم من أنها تناولتها ملايين الأقلام. فلايستطيع أحد أن يطفئ فنارات أهل البيت وعلومهم.
وخاصةً قضية الإمام المهدي؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى أنزل الأديان وأرسل الرسل من أجل التطبيق، ومن أجل أن ينعم البشر في ظلّها، ولم يحدث مثل هذا اليوم في تأريخ البشر، إنّ ظهور المهدي تتويج لكلّ جهود الأنبياء والأئمّة بتاج الظفر، فالدين أتى من أجل التطبيق والعمل به، ولكن حالت موانع ومنها ظلم البشر دون ذلك، فلابدّ من أن يتحقّق هدف التطبيق في زمان من الأزمنة بتأييد غيبي إلهي. من خلال قراءات متعددة أيقنت لابد أن يكون هناك خطابا دينيا يواكب قضايا العصر ولابد من طرح آخر أجدى وأفضل، ومؤثر في الحياة العصرية مما يحرك مشاعر الجمهور، ويحترم عقولهم، إذ يربط بين مفاهيم الدين وأوامره وعقائده، وتيار الحياة المتدفق من خلال طرح فكري علمي عصر الظهور. وأسباب غيبة الإمام عن طريق تثقيف وتوعية الشباب ذكورا واناثا.
وبهذا تعاظمت المسؤولية على من يهمه هذا المسار الذي يصب في مصلحة الإنسان، من علماء ومفكرين ومعنيين بتنوير الانسانية. وإن وسائل النهضة لا يمكن أن تتوافر من دون السعي المتواصل والمُخلص لتحقيقها، ولابد من مواكبة العصر واستثمار وسائله لخدمة القضية المهدوية، لذا يحث سماحة المرجع الصادق الشيرازي على الاستفادة القصوى من وسائل الاعلام قائلاً: (ينبغي الاستفادة من التكنلوجيا الجديدة، المتيسّرة اليوم للجميع، وكذلك نحن بأمس الحاجة إلى المسارح والمعارض والإعلام المقروء، والمسلسلات التخصصية التي تخاطب عقول الشباب، والنساء والأطفال، والمثقفين والعمال ورجال الدين، وبأمس الحاجة إلى منظملت شبابية حسينية مثقفة، تدرك أهداف النهضة المقدسة).
***************
اضافةتعليق
التعليقات