عند تصفح وريقات التأريخ، تنفرج أمام ناظرينا شخوصا قائمة بكينونتها، تلقي بثقلها المعهود في سير الأحداث والوقائع، عبر مواقف مشرفة، لتحفر نقوشا عميقة لا يمكن محوها أو طمسها، أو حتى تجاوزها وغض الطرف عنها بأي حال من الأحوال.
من بين تلك الشخوص هو عم النبي أبو طالب ركنه وعضده وظهيره.
سؤال لطالما تردد في مخيلتي، وأنا أتصفح حياة النبي صلى الله عليه وآله حين البعثة ألا وهو: متى يحتاج المرء إلى ملاذ آمن؟
فبعد ارتحال جد النبي عبد المطلب، آلت زعامة قريش إلى عمه أبي طالب.. فهل كان مقدّرا في علم الغيب أن يكون هذا العم هو الظهر القوي والملاذ الآمن لابن أخيه؟
ومن الواضحات التي لا تحتاج إلى تبيان، إنّ أعمام النبي لم يكونوا كلهم سواسية، رغم اشتراكهم بالدم والنسب، فمنهم المقاتل الصنديد حمزة سيد الشهداء، ومنهم الكافر الجاحد كأبي لهب، الذي أذاق النبي الأكرم صنوف العذاب ونكّل به أشد التنكيل، فأصبح شوكة دامية في طريق الدعوة إلى الله، ولم يكتفِ بذلك لوحده، بل أشرك زوجته (أم جميل) معه في رحلة الإيذاء، لتكون هي كذلك على شاكلته، أفلا يقال: إنّ الطيور على أشكالها تقع؟!
أمّا عمّه أبو طالب فهذا لوحده قصة ملاذ آمن، يجير من يستجير به، ويرتاح إلى عرينه كل طريد، ويأوي إليه كل مستضعف يبتغي الأمان والنصرة والتأييد.
فما كان أبو طالب ليقّصر في نصرة النبي، والذود عنه في أحلك مراحل الدعوة الإسلامية، وما كان ليسلمه إلى عتاة قريش وطغاتها ممن أرادوا طمس دعوته، والاستهزاء والسخرية بدينه وإيمانه.
إنها إرادة الله عزوجل في رسله وأنبيائه.. أبت أن تُفرد النبي الكريم، أو تدعه بلا مُعين يعضده في حمل همّ الرسالة وثقل التبليغ .
فشاءت إرادته عز اسمه أن توجد عزاء لذلك العذاب المتأتي لنبيه من عمه الكافر أبي لهب، بنصرة فريدة بطلها عم آخر رحيم ودود ألا وهو مؤمن آل قريش وكافل النبي، وظهيره الذي يستقوي به لمواجهة كفرة قريش ورعاعها.. فكان أبو طالب نعم الظهير ونعم النصير.
فمنذ نعومة أظفاره صلى الله عليه وآله أحاطه عمه أبو طالب برعايته وعنايته فكان خير حارس ومدافع، فلقد علم بما سيكون في مستقبل حياته من السمو والرفعة، وأنه سيملأ الأرض نورا وهداية، وسيسفّه أحلام المشركين ويقضي على طغيانهم وشركهم لأنه رسول رب السماء وفي سيمائه آثار النبوة، وقد أحاطه الكهّان علماً بذلك، وحذّروه من دسائس اليهود ومحاولاتهم الشيطانية لاغتياله والقضاء على دعوته وهي لا تزال في مهدها..
يقول الرواة: إنّ أبا طالب سافر للتجارة إلى الشام مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فسارع إليه الراهب فقال له: إنّي أنصحك أن ترجع بابن أخيك من مكانك هذا وإن أدّى ذلك إلى ذهاب أموالك وخسارتك في تجارتك، فإنّي لا آمن عليه من دسائس الشرك ومكائد اليهود، فإنّهم إن عرفوا الذي عرفته فلا يولّوا حتّى يلحقوا به الأذى، بل يغتالونه بكلّ نشاط وقوّة، وقفل أبو طالب راجعاً إلى مكّة، ولم يمض في تجارته إلى الشام حفظاً لابن أخيه، وبلغ من رعايته له أنّه كان يصحبه معه في فراشه خوفاً عليه، كما كان ينقله في غلس الليل من مكان إلى مكان، ويمضي ليله ساهراً على حراسته لئلّا يغتاله أحد.
ومن المؤكّد أنّه لو لا هذه الحماية الطالبية للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، لما استطاع أن يكمل دعوته، ويقف بصلابة أمام المتربصين به من عتاة قريش وكفارها، مستهيناً بهم محتقراً لعقولهم التي تدين بالعبودية لأصنام يصنعونها بأيديهم .
تلك كانت حمايته لشخص النبي الأكرم، أما حمايته للدعوة الإسلامية فكان هو الأول في نصرة دين النبي ونصرة أتباعه في بدء الدعوة.. ولمّا أعلن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم دعوته الخالدة الهادفة لتحرير الإنسان من عبادة الأوثان، هبّت قريش عن بكرة أبيها فزعة، ومحشّدة كل مكائدها لإطفاء شعلة التوحيد، ووضع العراقيل أمام النبي كي تثنيه عن المضي في نشر مبادئه، فحاربوا أصحابه وعذبوهم أشد التعذيب فكانت مرحلة عصيبة من حياة الدعوة.
لقد أوجدت الدعوة الإسلاميّة انقلاباً فكريّاً وتحوّلاً اجتماعيّاً في مجتمع مكة، إذ خافت قريش على مصالحها وموقعها بين القبائل، وخافت على نسائها وأبنائها من التأثر بالشعارات كتوحيد الله الواحد الأحد ونبذ الأصنام والحرية والمساواة وأداء الحقوق، وكل المبادئ التي أعلنها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما أنهم خافوا على آلهتهم وأصنامهم التي سخر منها النبيّ، فأجمعوا أمرهم على محاربته والتنكيل بالمؤمنين بدعوته، إلّا أنّ أبا طالب، بطل الإسلام وقف سدّاً منيعاً لحمايته والدفاع عن دعوته الإلهية، وكان يخصه بالتأييد ويبث دعمه له ليطمئن النبي، وقد خاطبه بهذه الأبيات المشهورة قائلا:
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وابشر بذاك وقرّ منك عيونا
ودعوتني وعلمت أنّك ناصحي
ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينا
ولقد علمت بأنّ دين محمّد
من خير أديان البريّة دينا
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتّى أوسّد في التّراب دفينا.
ولكن ما أثقل فؤاد النبي واقض مضجعه وهدم ركنه، سرعة ارتحال عمه أبو طالب عن دار الدنيا في عام أسماه النبي بعام الأحزان.. وهو العام الذي توفي فيه أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وآله، وزوجته خديجة بنت خويلد في العام العاشر للبعثة وقبل الهجرة بثلاث سنين.. إنه عام تجمعت فيه سُحب الألم في سماء النبي، فأمطرته بوابل آهاتها ولوعاتها وعَبَراتها، حتى غدا بلا ظهير ولا ملاذ ولا جدار إليه يتكئ أو يستجير .
عام قد مرّ على قلب النبي كأصعب وأثقل ما يكون من أعوام.. فيه ضحك سن العدو وانفرجت أساريره عن خبث ولؤم دفينين، ولطالما شحنت صدور أعداء الله بغلٍ ليس له حدود، وهم يرون النبي في كنف عمه قد احاطه برعايته، ودفع عنه كل ما يعكّر أجواء رسالته الفتيّة.
وها هو نبي الإسلام يعلن حداده بفقده الملاذ الآمن، بوفاة نصيره الأول وحامي رعيله أبو طالب، بنفس راضية بقضاء الله وقدره ليبدأ شوطا جديدا في مرحلة عصيبة من مراحل الدعوة إلى الله الواحد.. لتتشكل حركته فيما بعد إلى نواة آخذة بالإتساع شيئا فشيئا، إلا إن غياب العم النصير قد ترك ندبة في حياة النبي لا تبرأ.. وثلمة لا تُسد أبدا.
اضافةتعليق
التعليقات