قال تعالى: {وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)}.
من الإشارات اللطيفة أن الله تعالى عندما يُقسم بشيء في كتابه الكريم لتبيان أهمية شيء آخر فلا يُمكن أن يكون هناك انفصال بينهما، فالعصر الذي كان مورد القسم هو اشارة للوقت، وما أقسم لأجله هو بماذا يقضيه ذلك المخاطب بكلام الله تعالى وهو"الانسان".
وكما يشير أحد الفضلاء بقول: "وكأن محور سورة العصر يدور حول فن من فنون إدارة العمر".
لذا نحن هنا نحاول أن نتأمل بهذه السورة وما فيها من ركائز تحفظ للإنسان عمره من الخسران، وتكسبه الفلاح، فقيمة ادارة أي مشروع سواء كان مشروع وجود الانسان نفسه أو أي مشروع متصل بهذا الموجود، هو أن يصل إلى اقصى ثمرة ونتيجة من تخطيطه وإدارته.
ركائز ادارة العمر في سورة العصر
- الايمان والعمل الصالح.
إن المفهوم العام للأيمان هو التصديق والتسليم بالأوامر الالهية، ولكن لو نظرنا لمفهوم الايمان بشكل أوسع لوجدنا إنه مفهوم لا يقتصر على أن يتحقق في نفس الأنسان من جهة معرفته بربه فقط.
بل يُمكن أن نقول: إن الأنسان لابد أن يُرتب أثر على حقيقة هذا الايمان في نفسه، ويفهم هذه الصلة التي هي بينه وبين ربه، وكما قال النبي (صلى الله عليه وآله): "من عرف نفسه فقد عرف ربه"(١).
فالذي يؤمن أنه مخلوق لله تعالى، وأن هذا البدن الترابي ما هو إلا مَركِب وأداة تتحكم فيها تلك الروح الإلهية التي نفخت فيه، يُدرك ويؤمن أن له من القدرات المحدودة، لكنها من القادر الغير محدود سبحانه وتعالى.
نعم! نحن قطرة في بحر الخالق، لكن ألا يكفي أن نكون قطرة منه وإليه لكي نفتخر بأنفسنا، وندرك حجمنا.
فالذي لا يؤمن بذاته، بقدراته، ولا يثق بمؤهلاته، هو بلا شك إنسان لم يستثمر حقيقة إيمانه بخالقه، لذا فالإيمان هنا عامل مؤثر جداً في صقل شخصية الانسان وتقويتها، وتوجيه بوصلته لكل خير وصلاح.
لذا فسعي الإنسان وجِدَه واجتهاده يعتمد على معرفته بمصدر قوته ما هي؟ هل هي من ذاته فقط؟! أم من خالق تلك الذات؟
فالارتباط بالله تعالى يجعل الانسان قوي، واثق الخطى، متحديا لكل الصعاب، مبدعاً وخلاق، وهذا بالنتيجة يوصل الانسان لكل خير، ولعمل كل ما فيه صلاح وفلاح.
_مفهوم الاستقامة العام في كل خطوات الحياة.
تُبين السورة بوابتين كما في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} لبلوغ الاستقامة.
فمن الالتفات اللطيف إن فعل "التواصي" أتى بزمن المضارع المستمر أي وجوب تحقق الاستمرارية على هذين الأمرين: (معرفة الحق أولاً، ثم الصبر عليه ثانياً) حيث نلحظ تم تقديم التواصي بالحق على الصبر.
في حدود معرفتي إن في التقديم اشارة إلى أن ثمرة هذه المعرفة تجعل الانسان قادر على بلوغ الصبر من خلال تحمل صعوبات هذا الطريق سواء كان في السير إلى الله تعالى، أو السير إلى أي هدف في هذه الحياة.
فإن المعرفة بقيمة ما نملك وما نريد أن نعمل، وماهي ثمرته من شأنها أن تُعطينا العزم والارادة في الاستمرار وعدم التراجع أو الانكسار.
ولذا من الاشارات اللطيفة القرآنية أن سيدنا الخضر (ع) علل عدم قدرة نبي الله موسى (ع) على الاستمرار في إتباعه للتعلم والأخذ منه هو لعدم إحاطته بما يجري أمامه، فلم يصبر! كما في قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} (الكهف:68).
لذا فمن أهم مقومات إشعال الهمة والصبر على صعوبة بلوغ أي هدف أو مشروع في الحياة أو تغيير أي صفة سيئة أو اكتساب أي فضيلة هي أن تكون لدينا أساسيات علمية ومعرفية حول ما نخطط للوصول إليه.
من هنا نلحظ غالباً شعور الانسان بعجزه وعدم قدرته على أن يحقق شيء في حياته، لأنه لم يُركز بدأً على هذه الخطوة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كما لابد من تحقق النصح على المستوى الشخصي، أي أن يسعى الإنسان ليكون على طريق الحق، وأن يَبني نفسه بناءً فكرياً وثقافياً، وعقائدياً بشكل جيد، أن يتفكر فيما ينقصه في معرفة ما سيحتاج أن تكون لديه إجابة عنه فيدار الجزاء، فهذه من أهم الأمور التي توصل الانسان للفلاح، وتجعله سعيداً.
كذلك على الانسان الإلهي أن لا يكتفي بهذا المستوى، بل عليه أن يُحقق مفهوم النصح على مستوى نصح الغير، والأخذ بأيديهم نحو معرفة الحق، فلا يكتفي بأن يكون ناجحاً وناجياً، بل يكون منجحاً ومنقذاً لغيره.
وختاماً وبما إن الآية تشير إلى التواصي فمن أبلغ الوصايا وأعظم أهل النصح تجلى في أئمتنا عليهم السلام كما في وصايا إمامنا علي لولديه والإمامين الحسن والحسين عليهم السلام لما قال لهما: "أوصيكما بتقوى اللَّه، وأن لا تبغيا الدّنيا وإن بغتكما ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا بالحقّ، واعملا للأجر".(٢)
فإن الانسان الواعي هو الذي يعرف أن الدنيا دار اختبار لا جزاء، وإنها ليست دار ارتياح بل بلاء، وهذا موجب لزهده فيها أي بمعنى عدم التعلق بما فيها، وعدم العيش لها، أو الاجتهاد فيها ولها فقط.
فهذه النظرة وهذه المعرفة لحقيقة الدنيا موجبة لتحقق الصبر فينا والاستقامة على كل ما فيها من خذلان وفساد وظلم وحرمان، فلا ينعكس علينا فنكون محبطين وانطوائيين.
بل بهذه الركائز نكون من أهل الحق والصبر، فلا نتخلى عن قيمنا، ومبادئنا، وكما قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}(الاسراء:٧)، فأذا عاملت الاخرين وفق قيمك، فأنت بذلك تحافظ على إنسانيتك، وتحافظ على قِيمة غيركَ كأنسان، أما إذا عاملتهم وفق قيمهم فأنك ستخسر قِيمك وقيمتك، وكل أنسان يجزى على ما يعمل، لذا فوجود الأشخاص الفاسدين ليس عذراً لكي تفقد صبرك وتتخلى عن صلاحك.
لذا ما أجمل أن تُدار حياة الانسان وفق مدار الايمان والصلاح، والعرفان بالحق، فيكون بذلك مُلهَماً بالصبر، ومن أهل الفلاح والمفلحين في الدارين.
---------
اضافةتعليق
التعليقات