لا بد لكل مسلم من معرفة أنّ للزهد طعماً ونكهة لا يمكن إدراكها إلا بعد تجربته، حيث أنّ فيه خير الدنيا وذلك بإسعاد الروح وحصولها على اللذة المعنوية، التي هي أفضل من لذة الجسم المادية ألف ألف مرة وهو فوق ذلك فيه خير الآخرة، فإن الآخرة هي الأمر الذي يلزم على العاقل أن يطلبه ويسعى لنيله بكل ثمن، فإن الحياة الدنيا ليست إلا دار غرور، وما هي إلا جيفة وطلابها كلاب، كما في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): "أقبلوا على جيفة قد افتضحوا بأكلها واصطلحوا على حبها" (1)
وهناك من ينبري ليقول إنّ اللازم أن نتكلم عن الحياة، فإن تأخر المسلمين سببه هو تأخرهم عن ركب الحياة، فكيف تتكلّم عن الموت؟ والجواب إنا نتكلّم عن الحياة في النشأتين قال الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لَا يُحْيِيكُمْ) (2)، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لِهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (3)، والحياتان إنما تحصلان بالزهد، فقد قال الإمام المرتضى (عليه السلام) في وصف المتقين (شاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم) (4)
لذلك نرى أن المسلمين قد فاتتهم حياتهم الدنيا، حين فاتهم الزهد بمعناه الحقيقي واتخذوا التكالب شعاراً، وقد قيل أن أحد زعماء الإلحاد قال: «إن المسلمين حينما كانوا للسماء أتتهم الأرض منقادة، وحين انصرفوا إلى الأرض فاتتهم الأرض والسماء إن المادّة ببهرجتها لوثت الفطرة وغزت محل الروح، فصارت بذلك آلة للهدم ولكن حينما تأخذ الروح محلها ومجراها وتوضع المادة في مكانها الذي خُط لها لابد أن تكون المادة آلة للبناء ولو شبّهنا الدنيا والآخرة، بشخص يريد أن يتزوج من فتاة جميلة جدا تغري بجمالها وقد اشترطت عليه بمهر غال، فإن هذا الإنسان عندئذ يكد ويعمل كل ما هو ممكن لتحصيل ذلك المهر المعين والذي يراه مناسباً في سبيل الظفر بتلك الغانية أو الفتاة.. فكما أن الرجل العاشق يكدح في ليله ونهاره لكن فكره مع الفتاة، كذلك الزاهد فإنه مع الآخرة.
الزهد السلبي
بدأ الزهد بمعناه الشرعي الأصيل بالإعراض عن كل ما يبعد الانسان عن ساحة الحق تعالى ويجعله منغمساً في شهوته ولذته ولهوه ولعبه وما الى ذلك من افعال وسلوكيات يترتب عليها التيه والضلال في سُبل الشيطان والابتعاد عن سبيل الرحمن لكن الذي حدث فيما بعد لاسيما في الحقبة العباسية هو دخول ثقافات غريبة على المجتمع الاسلامي اصبحت فيما بعد مذهباً واتجاها له أصوله وقواعده، هذه الثقافات دخلت مع الأقوام الذين تشرفوا بالإسلام، إلا أنهم لم يستطيعوا بعد أن يتخلصوا من آثار تلك الافكار والسلوكيات القديمة الغريبة على الاسلام وجزئياته، فعمدوا بشعور منهم أو بلا شعور الى استدخال تلك القيم والسلوكيات وإلباسها ثوب الاسلام، وصارت الرهبنة والتصوف والدروشة من مظاهر المسلم الزاهد العابد عند اصحاب هذا المذهب أو ذلك الاتجاه، وبالتالي قد تحول مفهوم الزهد من معناه الاسلامي الاصيل الى مفهوم اخر بعيد وغريب عن روح الاسلام المحمدي واهدافه النبيلة.
فزهد هؤلاء تتخلله رياضات روحية وافعال منفرة لا تقبلها الفطرة السليمة فالرهبنة - كمصطلح - أخذت من (الرهبة) التي جاءت بمعنى الخوف من الله له ، وكما يقول الراغب الأصفهاني في مفرداته، الخوف الذي يكون ممزوجاً بالزهد والاضطراب، والترهب يعني: (التعبد والعبادة) والرهبانية بمعنى: شدة التعبد، وهي بذلك قد كانت صفة ممدوحة محمودة بين المسيحين الاوائل، رغم انها لم تكن اصلاً وإلزاماً فيما جاء به المسيح من عند الله تعالى، إلا أن أتباع المسيح اخرجوا الرهبانية من حدودها وجرّوها الى الانحراف والتحريف ولهذا فان الاسلام ندد بها بشدة، حتى ان كثيرا من المصادر الاسلامية قد اوردت الحديث المعروف: (لا رهبانية في الإسلام) (5) فالرهبنة تُعد أبرز مظهر للزهد السلبي والتي كانت تنتشر ولا تزال في أوساط المسيحين، فمن مصاديقها التي عُرفت هو تحريم الزواج للنساء والرجال بالنسبة لمن يتفرغ للرهبنة والانزواء الاجتماعي، واهمال المسؤوليات الانسانية في المجتمع كافة ، والركون الى الصوامع والاديرة البعيدة اضافة الى كثير من المفاسد في الاديرة ومراكز الرهبان هؤلاء الرهبان قد قدموا كثيرا من الخدمات الانسانية الجليلة التي لا تنكر - كتمريض المصابين بأمراض خطرة وامراض منقرة كالجذام وما شابه.
اضافة الى القيام بالتثقيف والارشاد والتوعية بين اقوام بدائية متخلفة ومتوحشة وقيامهم ببرامج التعليم والتحقيق، وفوق كل ذلك ما حرموا به انفسهم من متع ولذائذ معتقدين أنها في سبيل الله - ولكنه بالرغم من كل ذلك فإنّ هذه الامور تعتبر قليلة الاهمية قياساً الى المفاسد التي اقترنت برهبنتهم هذه وترتبت عليها.
إن الله سبحانه وتعالى قد خلق الانسان اجتماعياً، وكل تكامل فيه سواء كان مادياً أم معنوياً فهو مبتن على الخلقة والكينونة الاجتماعية له، وان الاديان وما جاءت به من شرائع وقوانين لم تلغ دور الانسان في المجتمع، بل دعمت ذلك الدور وهذبته واوجدت له الاسس والقواعد التي تتكفل بجعله انساناً فعالاً في مجتمعه يفيد ويستفيد في تكوين مجتمع متماسك ومتكافل وفق ضوابط منطقية رصينة اجادت بها تلك الرسالات والأديان على بني البشر.
ومن خلال ما تقدم نفهم أن هكذا زهداً بعيد جداً عن مضمون الدين الاسلامي الحنيف، وهو على نقيض تام مع الزهد الشرعي الايجابي الذي بينه نبينا الا الله واختطه واقتفاه من بعده ائمة الهدى (عليهم السلام)، ذلك الزهد الذي يعني البساطة في الحياة والابتعاد عن التبهرج والزخرفة الدنيوية، وعدم الوقوع في أسر المال والموقع والمركز والمنصب، والتحرر من كل اشكال الماديات، والترفع عن المغريات والملذات لكي تتم المعايشة بصورة اجتماعية هانئة وهادئة وفوق ذلك انها هادفة.
ولنا في قصة عثمان بن مضعون عبرة، ذلك الصحابي الذي فقد ابنه العزيز، فبعد ان مات ابنه هذا لم يعد يخرج للعمل حزناً عليه، وانشغل في العبادة وترك كل شيء سواها، وجعل من بيته مسجداً ومعبداً، واعتزل المجتمع حتى وصل خبره رسول الله، فامر بإحضاره، وعندما وصل عثمان قال له النبي: "يا عثمان، ان الله لم يكتب علينا الرهبانية، انما رهبانية امتي الجهاد في سبيل الله"، لعمري ان في هذه القصة بياناً شافٍ وتوضيحاً كاف عن الشرح والتأويل، وفيها الاشارة الوافية من ان الاعراض عن الحياة المادية والانزواء الاجتماعي، وتعطيل الاعمال بصورة سلبية لا يرتضيه الله تعالى، وإن كان ذلك فيجب ان يصب في مسير إيجابي، مسير الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته وجعلها هي العليا.
اضافةتعليق
التعليقات