مبروك ربحتَ تذكرة مجانية إلى الجنة..
منذ أيام الصِّبا وأنا أسمع غيرَ الشيعة من أبناءِ العامة والوهابية يُشكِلون على الشيعة نقلَهم حديثَ (حُبُّ علي بن أبي طالب حسنة لا تضر معها سيئة وبغضُه سيئة لا تنفع معها حسنة) إذ يرَونه يُجَرّئ الناس على ارتكاب المعاصي، وذاتُها إشكالاتُهم تتكرر مع أحاديث الشفاعة، لتنفجرَ في يومِ الناس هذا قنبلةٌ من عيارِ العمائم المزيّفة! فتَرِدُ تلك الإشكالات من مُعَمَّمٍ ظاهرُه التشيُّع مكذِّباً حديثَ حضورِ الزهراء (عليها السلام) وشفاعتَها يومَ القيامة لشيعتِها ومحبّيها، زاعماً أنه من أساطيرِ الخطباء!.
فما هو جوابُنا؟
ألا تدفعنا تلك الأحاديث حقاً للإستهانة بالمعاصي؟!
وهل لمولاتنا الزهراء (عليها السلام) موقفُ مع محبيها يومَ القيامة؟!
على منبر العتبة العلوية
في واقع الحال لم يكن لدي جواب يشفي الغليل، لكن بفضلِ الله تعالى أُنعِمتُ عَليْنا، ففي الفاطمية الثانية عام ١٤٣٧ هـ كنتُ في ضيافة المولى أميرِ المؤمنين (صلوات الله عليه) وقد ارتقى المنبرَ عالِمٌ بمِثلِه تُكشَفُ غمّاءُ الجهلِ والحَيرة عن أيتامِ آلِ محمد (صلى الله عليه وآله)، تصدّى حينَها لمسألة كون مولاتنا الزهراء (عليها السلام) إكسيراً من أَحَبَّها دخل الجنة، وها أنا أقدّم بين يديكم زُبدةَ ما استفدتُّه من ذلك المجلس ومن غيره، مصدِّرَةً كلامي بما صدَّر به سماحته (حفظه الله) كلامَه من بيان أقسامِ الناس اعتقاديّاً، حيث أن الناس في علاقتهم الاعتقادية بأهل البيت (صلوات الله عليهم) ثلاثةُ أقسام:
_المُفرِطون: والإفراطُ هو رفعُ أهلَ البيت فوقَ مقامهم ورتبتهم التي رتبهم الله فيها، وهو ما يُعرف بالغلو.
_المفَرِّطون: والتفريط هو إزالةُ أهل البيت وإنزالُهم عن رتبتهم التي رتبهم الله فيها، وهو ما يُعرف بالقلو.
_ النمرقة الوسطى: وهم المعتدلون الذين يتّبعون أهل البيت فلا يصفونهم إلا بما وصفوا به أنفسَهم ولا يعتقدون بهم إلا بما أمروا بالاعتقاد به.
فينبغي للمؤمن أن يكون يقظاً لئلا يميلَ باعتقاداتِه عن الصراطِ الأقوم.
يا فاطمةُ اشفعي لي في الجنة
بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى عقيدةَ الشفاعة في كتابِه المنزَل على نبيّه المرسل (صلى الله عليه وآله) انتفى الداعي للكلام في أصل هذه العقيدة، يبقى الكلام في خصوصِ ما نحن فيه وهو شفاعةُ مولاتِنا الزهراء (عليها السلام) لشيعتِها ومحبّيها يومَ القيامة:
أ: نص الرواية
يروي فرات بن إبراهيم الكوفي في تفسيره المعروف أن جابر قال لأبي جعفر الباقر (عليه السلام): جُعلت فداك يا ابن رسول الله حدِّثني بحديث في فضل جدتك فاطمة (عليها السلام) إذا أنا حدَّثتُ به الشيعة فرحوا بذلك.
قال أبو جعفر: حدَّثني أبي عن جدي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
إذا كان يوم القيامة نصب للأنبياء والرسل منابر من نور فيكون منبري أعلا منابرهم يوم القيامة... - إلى أن يقول صلى الله عليه وآله - :
فيقول الله جل جلاله: يا أهل الجمع طأطئوا الرؤوس وغضوا الأبصار فإن هذه فاطمة تسير إلى الجنة، فيأتيها جبرائيل بناقة من نوق الجنة مدبجة الجنبين، خطامها من اللؤلؤ المحقق الرطب، عليها رحل من المرجان فتناخ بين يديها فتركبها فيبعث إليها مائة ألف ملك فيصيروا على يمينها ويبعث إليها مائة ألف ملك يحملونها على أجنحتهم حتى يصيروها عند باب الجنة، فإذا صارت عند باب الجنة تلتفت!.
فيقول الله: يا بنت حبيبي ما التفاتك وقد أمرت بك إلى جنتي؟
فتقول: يا رب أحببت أن يعرف قدري في مثل هذا اليوم.
فيقول الله: يا بنت حبيبي ارجعي فانظري من كان في قلبه حبٌّ لكِ أو لأحد من ذريتك خذي فأدخليه الجنة.
قال أبو جعفر: والله يا جابر إنها ذلك اليوم لتلتقط شيعتَها ومحبيها كما يلتقط الطيرُ الحَبَّ الجيِّدَ من الحَبِّ الردي.ةتفسير فرات الكوفي ٢٩٨ - ٢٩٩
ب. سندها
روايات موقف الزهراء (عليها السلام) يوم القيامة وشفاعتها لشيعتها المتوفرة بين أيدينا في مصادر الخاصة والعامة بلغت الست عشرة رواية تقريباً وفيها الصحيح سنداً، وحتى وإن لم يكن فيها الصحيح، وصول هذا العدد من الروايات في معنىً من المعاني يكفي للقطع بصدوره عن المعصوم، فحضورُها وشفاعتها (صلوات الله عليه) أمرٌ لا يصلُ غبارُ الشكِّ إليه.
ج. متنُها
لا تكليفَ في يومِ القيامة
من المسَلَّمات عندنا أن الدنيا دارُ التكليف والآخرة دارُ الجزاء فلا تكليفَ هناك، فكيف يأمر الله عز وجل الخلائق بطأطأةِ الرؤوس وغضِّ الأبصار؟!
فلْتعلم أيها القارئ الكريم أن الأوامرَ الإلهيةَ قسمان: أوامرٌ تشريعية بمقدورِ المكلَّف المأمور أن يُطيعَ أو أن يَعصي فهو مخَيَّر فيها، وأوامرٌ تكوينية {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون} فلا يملكُ المأمورُ إلا أن يطيع.. ليس بمقدورِه أن يخالف، والأمر بغض الأبصار أمرٌ تكويني فجميع الخلائق سيغضّون أبصارَهم شاؤوا أم أبوا ما خلا إبراهيم الخليل وخاتم الأنبياء محمد وأمير المؤمنين علي والحسن والحسين وأولادهم الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) حسب ما ذكرته الروايات كما في تفسير الكوفي في الصفحة ٤٤٥.
حارت بمعناها عقولُ العالَمِ
ما هو مقامُ فاطمة الزهراء لتكون شفيعةَ يومِ المحشر؟
_ الزهراء شاهدةُ على أحقانية دينِ الله: الله سبحانه وتعالى أقام أهل البيت حججاً على دينه، {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين} فالمباهلة على أحقّانية دين الله لابد أن تكون بوجود هؤلاء، رغم أن الله سبحانه وتعالى فتح المجال للنبي (ص) لكي يأتي بنساء المسلمين وفيهن زوجات النبي والنساء المسلمات الصالحات إلا أن النبي الذي لا ينطق عن الهوى لم يَجئ إلا بمن لديها الأهلية لتكون شاهدةً على دين الله وهي مولاتنا الزهراء (عليها السلام).
_فَطم اللهُ شيعتَها: جاء في بعض الروايات بأنها سميت فاطمة لأن الله فطم شيعتها عن النار وفطم أعداءَها عن حبّها والفطْمُ هو المنع، منتهى الآمال للشيخ عباس القمي، ومجمع البحرين للشيخ الطريحي.
_ الزهراء ميزان، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "يا فاطمة، إن الله تبارك وتعالى ليغضب لغضبك، ويرضى لرضاك". أمالي الصدوق الصفحة ٤٦٧.
_الزهراء قيّمةٌ من القيّمين على دين الله حيث روى المجلسي في البحار عن المعصوم في قوله تعالى: {وذلك دينُ القَيِّمة} القيّمة هي فاطمة (صلوات الله عليها)،. وهي أمينةٌ من أمناء الله على دينِه.
ويكفي في الحديث عن مقامها ما روي عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) في أمالي الطوسي المجلس ٣٦ الحديث ٦: "وهي الصديقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى"، فكيف لا تكون شفيعةَ يومِ المحشر؟!
وسُكرُ الخمرِ في المعنى فلفظُ (الخمرِ) لا يُسكِر
هل كل من حمل في قلبه حبَّ فاطمة سيدخل الجنة؟ إذن لماذا الواجباتُ والمحرمات؟!
طرح سماحتُه مثالاً في اعتقادنا بحب أمير المؤمنين (عليه السلام)، فمن يعتقد أنَّ حُبَّه للإمام لوحده يكفي لدخول الجنة بلا امتثال أوامرِ ونواهي الشارع المقدَّس فهو (مفرِط) مغالي واستمراره في هذا الطريق سيؤدي به إلى الكفر بالله عز وجل - والعياذ بالله - ! ومن يعتقد أنَّ امتثال الأوامر والنواهي يكفي لدخول الجنة ولا يُشترطُ حبُّ الإمام فهو (مفرِّط) مُقالي ونهايةُ هذه السكّة نصبُ العداء لأهل البيت (عليهم السلام) - نستجيرُ بالله -!.
وأما الاعتدال فهو الاعتقاد بأن حبَّ علي (عليه السلام) شرطٌ لدخول الجنة مع الالتزام بالواجبات وترك المحرّمات، وقد بيَّن سماحته المعنى السليم للحب حسب ما ورد في كتابِ اللهِ وسنةِ نبيه (صلى الله عليه وآله)، يتحققُ الحبُّ حين يصدّقُ الفعلُ القولَ ويتناغمُ القلبُ والعقلُ مع الجوارح، ومما أورده سماحتُه:
١. عن رسول الله (صلى الله عليه واله): "حُبُّ علي بن أبي طالب حسنة لا يضر معها سيئة مع أداء الفرائض، وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة ولو أدّى الفرائض". القطرة من بحار مناقب النبي والعترة ج٢ ص١٤٧ ح١٩.
٢. قصة الرجل الذي قال لزوجته اذهبي إلى فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسليها عني: أنا من شيعتكم أو لستُ من شيعتكم؟ فذهبت إليها وسألتها، فقالت (عليها السلام): "قولي له: إن كنت تعمل بما أمرناك، وتنتهي عما زجرناك عنه فأنت من شيعتنا، وإلا فلا" .. إلى آخر الحديث. تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ص٣٠٨.
٣. روي أن الإمام الصادق (عليه السلام) وهو على فراش الموت فتح عينيه وأمر بجمع كل من بين الإمام وبينه قرابة، ثم نظر إليهم وقال: "إن شفاعتَنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة" . كتاب الصلاة للسيد الخوئي ج١ ص٦.
فبات واضحاً ما هو المقصود من محبي فاطمة وشيعتِها، مع ملاحظة أن وصف (الشيعة) أعظم بكثير من (المحب) و(الموالي) حيث ذكرت بعض الروايات أن شيعة علي هم أمثال سلمان وعمار، لكن بالمعنى العرفي صار المحب والموالي من الشيعة.
يُنسَب لإمامنا الصادق (عليه السلام) بيتا شعرٍ:
تَعصي الإلهَ وأنت تُظهِرُ حبَّه
هذا لَعَمرُك في الفِعالِ بديعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعتَه
إنَّ المحبَّ لمن يُحبُّ مطيعُ، تحف العقول ص٢٩٤.
اضمنْ لي أن تموت على حب علي (عليه السلام) أضمنُ لك الجنة
كونُك في الدنيا من محبي علي وفاطمة ومن شيعتهما (عليهما السلام) لا يكفي لتشملَك بشرى النجاةِ والشفاعة، فلابد أن تثبتَ عند حشرجات الموت، وما الذي يضمن لي أن أموت على حب علي بن أبي طالب؟.
يقول الله عز وجل: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} من الأمور التي تفسد العقيدة وتؤدي إلى العديلة الإكثار من الإساءة لله وتعدّي حدودِه، فالذي يؤَمّنُني هو إطاعةُ الله فيما أمر وترك ما عنه زجر، والتاريخُ حافلٌ بالشواهد والعِبَر على من زاغ عن الجادة، هذا الزبير الذي قال عنه الإمام (عليه السلام): (الزبير منا أهل البيت) وإذا به يموت على الكفر، وهذا أبو الخطّاب ابن أبي زينب كان من أصحاب الصادق (عليه السلام) انتهى به الأمر إلى أن يلعنه الإمام ويلعن من قُتل معه ومن بقي منهم ومن دخله رحمة عليهم لأنه كذب على الإمام، واقرأ عن الشلمغاني في زمن صاحب الزمان (عجل الله فرجه) وغيره، لا أزاغ الله قلوبَنا بعد إذ هدانا بحق أحب خلقِه إليه.
وبهذا البيان زال الغمامُ وانكشف معنى حب علي حسنة لا تضر معها سيئة، وحللنا الالتباس الحاصل في روايات موقف الزهراء وشفاعتها لشيعتها يوم القيامة، تلك الروايات تدفعنا للالتزام والانقياد وتحمينا من التمرّد.
إن كنتَ ممن ربح تذكرةً إلى الجنة فمباركٌ لك رِبحُك.. لكنَّ التذكرة حتماً لم تكن مجّانية!.
_____
البحث الأصلي لفضيلة الشيخ أحمد الدر العاملي جزاه الله عن أيتامِ آلِ محمد خيرا.
اضافةتعليق
التعليقات