تخلد الإمام علي بخلود الحياة، وعندما نبحُر في عمق التاريخ الأنساني الطويل لم نجد بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلاً كاملاً كالإمام علي بن إبي طالب (عليه السلام) يحمل الصفات والفضائل والمناقب والمحاسن الأخلاقية والإنسانية منذ أن آمن بالرسالة النبوية وأفتدى بنفسهِ رسول الله الأعظم وهو أول من نصر الأسلام بسيفه عندما برزَ في معركةِ الخندق بمواجهة عمر بن ودٌ العامري التي تُعادل ضربة الامام عبادةُ الثقلين وضمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام الجنة.
تنبؤ النبي بأستشهاد علي عليه السلام
هناك أخبار كثيرة أنبأت باستشهاد الإمام علي قبل استشهاده. ومنها ما جاء في الخطبة الشعبانية. فقد روي أنّ رسول الله بعد أن تحدّث عن شهر رمضان وشرفه وثواب الطاعة فيه بكى.
قال له أمير المؤمنين: يا رسول الله ما يبكيك؟
قال: يا علي أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر، كأني بك وأنت تصلي لربك، وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين، شقيق عاقر ناقة صالح فيضربك ضربة على مفرق رأسك، ويشقه نصفين ويخضّب لحيتك من دم رأسك.
فقال له أمير المؤمنين: يا رسول الله وذلك في سلامة من ديني؟
فقال: في سلامة دينك؛ ثم قال: يا علي من قتلك فقد قتلني، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن سبّك فقد سبّني، لأنّك مني كنفسي، وروحك من روحي وطينتك من طينتي، وإنّ الله عز وجل خلقني وإياك واصطفاني وإياك، واختارني للنبوة واختارك للإمامة، فمن أنكر إمامتك فقد أنكر نبوتي، يا علي أنت وصيي وأبو ولدي وزوج ابنتي وخليفتي على أمتي في حياتي وبعد موتي، أمرك أمري، ونهيك نهيي، أقسم بالذي بعثني بالنبوة وجعلني خير البرية انك لحجة الله على خلقِه وأمينهِ على سره.
فاجعة استشهاد الأمام عليه السلام
جاء شهر رمضان من سنة أربعين للهجرة يحمل بين أحداثه أعظم فاجعة مرت على المسلمين بعد فقد نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، هذه الفاجعة التي خطط لها أشقى الأشقياء عبد الرحمن بن ملجم المرادي (لعنه الله) في مكة مع نفر من أصحابه الخوارج الذين تعاهدوا أن يقتلوا كلاً من أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه ومعاوية ابن أبي سفيان وعمرو بن العاص، فكان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه من حصة الشقي ابن ملجم (لعنه الله) الذي تكفل بإطفاء شمعة حياته.
رموز النفاق التي اشتركت في تلك الجريمة
أقبل ابن ملجم بعد ذلك الاتفاق حتى قدم الكوفة، فلقي بها أصحابه وكتمهم أمره، وطوى عنهم ما تعاقد هو وأصحابه عليه بمكة من قتل أمير المؤمنين عليه السلام مخافة أن ينتشر، وزار رجلا من أصحابه ذات يوم من بني تيم الرباب، فصادف عنده قطام بنت الأخضر، من بني تيم الرباب.
وكان الإمام عليه السلام قتل أخاها وأباها بالنهروان، فلما رآها شغف بها، واشتد إعجابه فخطبها، فقالت له: ما الذي تسمي لي من الصداق؟ فقال: احتكمي ما بدا لك، فقالت: أحتكم عليك ثلاثة آلاف درهم ووصيفا وخادما، وأن تقتل علي بن أبي طالب.
قالت له: فأنا طالبة لك بعض من يساعدك على هذا ويقويك ثم بعثت إلى وردان بن مجالد، أحد بني تيم الرباب، فخبرته الخبر، وسألته معاونة ابن ملجم، فتحمل لها ذلك.
وخرج ابن ملجم، فأتى رجلا من أشجع، يقال له شبيب بن بحيرة، وقال له، يا شبيب، هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما ذاك، قال: تساعدني على قتل علي نكمن له في المسجد الأعظم فإذا خرج لصلاة الفجر فتكنا به، وشفينا أنفسنا منه، وأدركنا ثأرنا، فلم يزل به حتى أجابه.
فأقبل به حتى دخلا على قطام، وهي معتكفة في المسجد الأعظم، قد ضربت لها قبة، فقالا لها: قد أجمع رأينا على قتل هذا الرجل، قالت لهما: فإذا أردتما ذلك فالقياني في هذا الموضع.
فانصرفا من عندها، فلبثا أياما ثم أتياها، ومعهما وردان بن مُجالد، الذي كلفته مساعدة ابن ملجم (لعنه الله)، وذلك في ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين.
فدعت لهم بحرير فعصبت به صدورهم، وتقلدوا سيوفهم، ومضوا فجلسوا مقابل السدة التي كان يخرج منها علي عليه السلام إلى الصلاة.
قال أبو الفرج: وقد كان ابن ملجم أتى الأشعث بن قيس في هذه الليلة، فخلا به في بعض نواحي المسجد، ومر بهما حجر بن عدي، فسمع الأشعث وهو يقول لابن ملجم، النجاء النجاء بحاجتك! فقد فضحك الصبح.
أحداث الليلة التي استشهد فيها أمير المؤمنين عليه السلام
وعن الشريف الرضي رحمه الله قال: (وبإسناد مرفوع إلى الحسن بن أبي الحسن البصري قال: سهر علي عليه السلام في الليلة التي ضرب في صبيحتها، فقال: إني مقتول لو قد أصبحت فجاء مؤذنه بالصلاة فمشى قليلا فقالت ابنته زينب يا أمير المؤمنين مُر جعدة يصلي بالناس فقال: لا مفر من الأجل ثم خرج.
وفي حديث آخر قال: جعل عليه السلام يعاودُ مضجعه فلا ينام، ثم يعاود النظر في السماء، ويقول: والله ما كذبت ولا كذُبت، وإنها الليلةُ التي وعدتُ، فلما طلع الفجر شد إزارهُ وهو يقول:
أشدد حيازيمك للموت
فإن الموت لاقيكا
ولا تـجـزع مـن المـوت
وإن حــل بواديكا
وكان أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه عندما يدخلُ شهر رمضان يتعشى ليلة عند الحسن وليلة عند عبد الله بن العباس فكان لا يزيد على ثلاث لقم فقيل له في ليلة من الليالي ما لك لا تأكل؟ فقال: يأتيني أمر ربي وأنا خميص إنما هي ليلة أو ليلتان فأصيب.
وروي أن الإمام أمير المؤمنين لما أراد الخروج من بيته في الصبيحة التي ضرب فيها خرج إلى صحن الدار استقبلته الإوز فصحن في وجهه فجعلوا يطردوهن، فقال دعوهن فإنهن صوايح تتبعها نوايح، ثم خرج فأصيب صلوات الله وسلامه عليه.
وخرج الإمام صلوات الله وسلامه عليه وصلى بالناس فبينما هو ساجد ضربه اللعين ابن ملجم على رأسه بالسيف فصاح الإمام صلوات الله وسلامه عليه: فزت ورب الكعبة.
حمل الإمام عليه السلام إلى داره بعد ضربه
لَما ضرب أمير المؤمنين عليه السلام احتمل فأدخل داره فقعدت لبابة عند رأسه وجلست أم كلثوم عند رجليه ففتح عينيه فنظر إليهما فقال: الرفيق الأعلى خير مستقرا وأحسن مقيلا.
فنادت أم كلثوم عبد الرحمن بن ملجم يا عدو الله قتلت أمير المؤمنين قال: إنما قتلت أباك،
قالت: يا عدو الله إني لأرجو أن لا يكون عليه بأس.
قال لها: فأراك إنما تبكين عليه والله لقد ضربته ضربة لو قسمت بين أهل الأرض لأهلكتهم. وأخذ ابن ملجم فأدخل على الإمام (عليه السلام)، فقال: أطيبوا طعامه، وألينوا فراشه، فإن أعش فأنا ولي دمي، عفو أو قصاص، وإن مت فألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين.
اشتراك آل أمية في قتل الإمام عليه السلام
لم تكن مؤامرة قتل الإمام صلوات الله وسلامه عليه مقتصرة على الخوارج فحسب بل إن بني أمية كان لهم الأثر الفاعل في التخطيط والتمويل والتأسيس لهذه الحادثة الرزية التي أصيب بها الإسلام واستفاد منها أهل النفاق والكفر، وعلى هذه المشاركة الأموية في قتل الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه توجد شواهد عديدة منها:
أولا: إن أبا الأسود الدؤلي صاحب أمير المؤمنين ألقى تبعة مقتل الإمام على بني أمية، وذلك في مقطوعته التي رثى بها الإمام والتي جاء فيها:
ألا أبلغ معاويـة بـن حـرب
فلا قرت عيون الشامتـينا
أفي شهر الصلاة فجعـتمونا
بخير الناس طرا أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا
ورحلها ومن ركب السـفينا
ومعنى هذه الأبيات أن معاوية هو الذي فجع المسلمين بقتل الإمام الذي هو خير الناس، فهو مسؤول عن إراقة دمه، ومن الطبيعي أن ابا الأسود لم ينسب هذه الجريمة لمعاوية إلا بعد التأكد منها.
ثانيا: والذي يدعو إلى الاطمئنان في أن الحزب الأموي كان له الضلع الكبير في هذه المؤامرة هو أن ابن ملجم كان معلما للقرآن وكان يأخذ رزقه من بيت المال ولم تكن عنده أية سعة مالية فمن أين له الأموال التي اشترى بها سيفه الذي اغتال به الإمام بألف وسمه بألف ومن أين له الأموال التي أعطاها مهر لقطام وهو ثلاثة آلاف وعبد وقينة كل ذلك يدعو إلى الظن أنه تلقى دعما ماليا من الأمويين إزاء قيامه باغتيال الإمام.
ثالثا: افتخار بعض الأمويين عندما أدخلوا السبايا في مجلس يزيد بن معاوية لعنه الله بقوله:
نحن قتلنا عليا وبني علي
بسيوف هنـدية ورماح
وسبينا نساءهـم سبي ترك
ونطحناهم فأي نطاح
فهو أوضح دليل على أن للأمويين يداً طولى في قتل سيد الوصيين عليه السلام.
والاخلاق التي تهذب بها أمير المؤمنين فاقت المثالية وبلغت الرقي في المراتب, فقد أكتسبها من الرسول الاعظم التي شهد الله لتك الاخلاق النبيلة والفريدة في قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) وقد تجسدت تلك الاخلاق في سلوك الامام علي فقد كان عادلاً مع أشد خصومه. لم يأثر من الشقي ابن الشقي ابن ملجم (لعنة الله عليه) فقد أولى حكمه لله والعقل في وصيته الرائعة لأولاده ومحبيه, رغم أن المؤمنين والمقربين في لحظة الواقعة الكونية في مسجد الكوفة أنهالوا بالضرب على ابن ملجم وأرادوا الانقضاض عليه, لكن الامام أوقف هذا السلوك وأوعز الحكم لله عليه للعقل والمنطق. وهذا السلوك الاخلاقي تفتقر له البشرية عامة من حكام وعلماء وفلاسفة عبر التاريخ.
ومن مناقب أخلاق الامام علي (عليه السلام) بعد ضربة أبن ملجم اللعين بسيف مسموم تجمع الناس في باب الامام فخرج الامام الحسن (عليه السلام) فقال معاشر الناس إن أبي أوصاني أن أترك أمره الى وفاته, فإن كان له الوفاة وإلا نظر هو في حقه, فأنصرفوا يرحمكم الله.
هذه الاخلاق التي تحلى بها امام المؤمنين وسيد الوصيين وهو يترك وصيته لاولاده ومحبيه وللأمة الاسلامية في حاضرها ومستقبلها لكي تتجاوز, كما اراد الامام وأهل بيته من قبل الظالمين والطامعين. وهنا الامام لم يوصي بالثأر والانتقام ولا يريد ان تكون الواقعة الكونية نواة أنتقام وشرارة حرب بين الطوائف والقبائل. ولكنه جعل القصاص من الجاني تحديدا والقصاص العادل بالمثل.
_________________________________________
اضافةتعليق
التعليقات