في البدء السلام على من جعل السلام عليهم زكاة لنا، والتحية عليهم طهارة، فكانوا هم الذين يذهب الله عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا..
إن الفصاحة الفاطمية عرفت بارتقاء العقل البلاغي وتفردها في البيان، حيث نقشت الحروف مسارا للعقل البشري ومؤشرا في معرفة الحق والباطل، رغم التغيرات التي شهدها التاريخ وتحولات بقيت كما هي عليه من جمالية الوصف وصلابة المعنى، فكل كلمة كانت بحد ذاتها موسوعة بمعانيها وبمفرداتها وترتيب الاحداث فعندما نقرأ الخطبة الفدكية والتي هي محور حديثنا اليوم نجد ثمة مفردات فريدة قل تناولها في علم اللغة لكنها استخدمت وبكل جدارة في وصف حالها، وإن دل على شيء فهو يدل على طابع ادبي بليغ ومحكم في استعماله في تلك الخطبة التي ألقتها عليها السلام في مسجد المدينة بعد رحيل النبي (صلى الله عليه واله وسلم) من دون اي تحضير مسبق او وسيلة اخرى وانما كانت ارتجالية في عمر الثمانية عشر عاما.
مع وجود الظالمين لها والعصبة من اهل الباطل، دخلت المسجد وخاطبت الجمع الغفير من الناس وذلك من خلف الستار، فكانت كلماتها عميقة الظاهر منها من الادب والباطن منها من القرآن الكريم، فقد اعطت حق النطق بها من دون ان تحذف حرفا او تغلط في لفظ، فعندما تقرأ المقدمة تجد هناك لمسة من الأدب الاسلامي القديم حيث بدأت بالحمد والثناء والصلاة على أبيها فهنا جمعت ثلاثة امور في محور واحد وهو اتصال الحمد بالله تعالى فلا احد غيره يستحق الحمد والثناء عليه على ما انعم ثم الصلاة على محمد الذي هو مكمل لهذه المحاور.
ثم تلاحظ ترابط الجمل وحسن استعمال الامثلة التي ضربت في الخطبة وإلقاء الحجة عليهم والبراهين، مما جعلهم ينصتون لتلك البلاغة والفصاحة فكانت كما كان رسول الله وعلي ابن ابي طالب في الكلام عن الخالق فيما خلق، وعرض التوحيد بتلك الادلة العقيلة والنقلية، وكيف كانوا يعبدون الاصنام فلولا ابيها لما عرفوا التوحيد ولا الاسلام، وبقوا كما هم عليه من الجهل والظلام وعبادة الاصنام وممارسة الرذيلة، وان ابيها كان رحمة لهم وفي المقابل كانوا هم الشقاء لهم فقالت (ابتعثه الله إتماماً لأمره، وعزيمةً على إمضاء حُكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه. فرأى الأُمَم فِرَقاً في أديانها، عُكّفاً على نيرانها، وعابدةً لأوثاها، مُنكرةً لله مع عِرفانها، فأنار الله بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ظُلَمَها، وكشف عن القلوب بُهَمَها، وجلى عن الأبصار غُمَمَها، وقام في الناس بالهداية، وأنقذهم من الغواية، وبصّرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الصراط المستقيم), فزودت الامم بكلمات مقدسة بقيت دستورا فعرفتهم بنفسها وثم طالبت في حقها كما جاء في نهاية الخطبة، ولم تصرح في البداية وهذا هو عقل البيان الخطابي، جمعت خصال قومها وانتهزت فرصة معرفتهم بتلك التفاصيل حتى لا يشعرون بالخوف او عدم قبول الاعتراض على الخليفة الذي كانوا يعتقدون في صلاحيته، فكشفت عن ستار افعاله وبينت لهم الانجازات التي قام فيها رسول الله (ص) من اجل توحيدهم والمواقف العلوية التي قام فيها زوجها من اجل الحفاظ على الدين الاسلامي وعدم ضياعه وان كان على حساب رئاسته وحكمه، وانقلاب الاصحاب عليهم ونكران الولاية لبعلها، ثم تسترسل بالكلام حتى توضح لهم اهمية الارث وكيف ورثت عن ابيها فدك، ولماذا حرمت منه، وتوبيخ الاصحاب وعتابهم وانهم اغضبوا الله ورسوله في اعمالهم، فقالت..
وأنتم الآن تزعمون أن لا إرثَ لنا، «أفحكم الجاهلية يبغون»؟، «ومَن أحسن من الله حُكماً لقومٍ يوقنون»؟ أفلا تعلمون؟ بلى تجلّى لكم ـكالشمس الضاحية أنّي ابنته.
أيها المسلمون! أغلب على إرثيَه.
يا بن أبي قُحافة!
أفي كتاب الله أن تَرثَ أباك ولا أرِث أبي؟؟
لقد جئت شيئاً فريّاً!!
أفعلى عَمدٍ تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: «ووَرثَ سليمان داود» وقال فيما اقتصّ مِن خبر زكريّا إذ قال: «فهَب لي من لدنك وليّاً يَرثني ويرث من آل يعقوب».
وقال: «وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله» وقال: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الأُنثَيَين».
وقال: «إن تَركَ خيراً الوصيّة للوالدَين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتّقين».
وزعمتم أن لا حَظوة لي؟ ولا أرث مِن أبي!
أفخصّكم الله بآية أخرَجَ أبي منها؟
أم تقولون: إنّ أهلَ مِلّتين لا يتوارثان؟
أوَلستُ أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟
أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟
فدونَكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحَكَم الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكلّ نبأ مستقرّ، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه، ويحلّ عليه عذاب مقيم.
والقصد من هذه المفردات في لغة العربية هي من حظوة: هو النَصيب وان مَرحولة: يُقال: ناقة مخطومة ومرحولة، الخِطام بكسر الخاء: الزِمام، ومرحولة: مِن الرحل: وهو للناقة كالسَرج للفَرس.
حضَنة، جمع حاضِن: بمعنى الحافظ.
فكانت صرخة في وجه من اغتصب حقها، وتعريف الناس في ما جرى عليها من الخذلان والغدر من الاصحاب، فبقيت تلاحقهم لعنة فدك، حتى بكوا واعتذروا على افعالهم ولكن هل ينفع العذر بعد الفعل، لا انهم في العذاب خالدون, وانتهت الخطبة في انهاء بليغ يعجز عنه اكبر العلماء، فعندما ترى هذه الخطبة ستعرف ان لهذا البيت علاقة وثيقة باللغة العربية وفصاحة لسان وبلاغة المعان فكانوا القرآن الناطق وآيات من المعرفة فلا يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق، ولو تمعنا النظر جيدا لعرفنا ان الخطبة الفدكية احتوت على امور ذات اهمية اختصرها في نهاية الحديث حتى يعرفها القارئ ولا يخرج من الحديث صفر اليدين..
1. اهمية التوحيد واثاره في النفس والمجتمع.
2. بيان الناس بالمعاجز الالهية وارسال النبي لهدايتهم وصلاحهم.
3. المطالبة في الحق وعدم قبول الباطل وان كان من سلطان جائر.
4. تأثير المجتمع بالخطاب وبيان الحقيقة.
5. محاسبة الحاكم وأخذ الحق منه.
6. معرفة الناس في امام زمانهم ووجوب طاعته.
7. تذكيرهم في العقاب ومحاسبتهم في اليوم الاخر.
واخيرا قالت: لقد أجهَرَ في خصامي والفَتية الألدّ في كلامي، حتى حَبَستني قيلة نصرها، والمهاجرة وَصلَها، وغضّت الجماعة دوني طرفها، فلا دافع ولا مانع، خَرجتُ كاظمة، وعُدتُ راغمة، أضرَعتَ خَدّك يوم أضعتَ حَدّك، إفتَرست الذئاب وافتَرَشتَ التُراب، ما كفَفتَ قائلاً ولا أغنيتَ باطلا، ولا خيارَ لي، لَيتني مِتُ قبل هِينَتي، ودون ذِلّتي، عذيري الله منك عادياً ومنك حامياً، وَيلاي في كلّ شارق، مات العَمَد ووَهَنَ العَضُد، شكواي إلى أبي، وعَدواي إلى رَبّي، اللهم أنت أشدُّ قوّةً وحَولا، وأحدُّ بأساً وتَنكيلا.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا وَيلَ عليكِ، بل الويلُ لِشانئكِ، نَهنِهي عن وَجدِكِ يابنةَ الصفوة (182)، وبقيّة النبوّة، فما وَنيتُ عن ديني (183)، ولا أخطأتُ مقدوري، فإن كنتِ تريدين البُلغة فرزقُكِ مَضمون (184)، وكفيلُك مأمون، وما أُعدّ لكِ خيرٌ مما قُطعَ عنك، فاحتَسبي الله.
فقالت: حسبي الله. وأمسكت. (185)
اضافةتعليق
التعليقات