من بين كل تلك الصخور المنتشرة.. انتقيت الاقرب الى جنانهم.. فكانت مستقري الذي الجأ اليه بعد ساعات الرفرفة لتضليل قبورهم..
بين الحين والاخر تهب نسمات الطهر من مضاجعهم.. تارة تهب من قبر السبط لتخبر العالم اي نور يحتضن .
تروي شيء من حياته :
اشبه الناس خَلقا وخُلقا بجده رسول الله صلى الله عليه وآله، الكريم التقي.. الطاهر النقي انجذب اليه القريب والبعيد.. المحب والعدو .
فمن اخلاقه وحلمه:
روي أن رجلا من أهل الشام قال: دخلت المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فرأيت رجلاً راكباً على بغلة، لم أر أحسن وجها، فمال قلبي إليه، فسألت عنه، فقيل هذا الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، فامتلأ قلبي له بغضا وحسدت عليا أن يكون له ابن مثله، فصرت إليه وقلت: فعل بك وبأبيك أسبهما!!، فلما انقضى كلامي قال لي: (أحسبك غريبا؟).
قلت: أجل، قال: ((مر بنا فإن احتجت إلى منزل أنزلناك أو إلى مال آسيناك، أو إلى حاجة عاوناك)).
قال: فانصرفت عنه ما على الأرض أحب إليّ منه وما فكرت فيما صنع وصنعت إلا شكرته وخزيت نفسي .
واما علمه ومعرفته:
فيكفي ماروي عنه حيث انه كان يجلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويجتمع الناس حوله فيتكلّم بما ينير العقول ويقطع حجج المعاندين. من ذلك ما رواه ابو الحسن علي بن احمد الواحدي في تفسير الوسيط:
أنّ رجلاً دخل الى مسجد المدينة فوجد شخصاً يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس حوله مجتمعون فجاء اليه الرجل، قال: أخبرني عن {شاهد ومشهود}؟ فقال: نعم، أمّا الشاهد فيوم الجمعة والمشهود فيوم عرفة.
فتجاوزه الى آخر غيره يحدّث في المسجد، سأله عن {شاهد ومشهود} قال: أمّا الشاهد فيوم الجمعة، وأمّا المشهود يوم النحر.
قال: فتجاوزه الى ثالث، غلام كأنّ وجهه الدينار، وهو يحدّث في المسجد، فسأله عن شاهد ومشهود، فقال: «نعم، أمّا الشاهد فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمّا المشهود فيوم القيامة، أما سمعته عزّ وجلّ يقول: (يا أيُّها النبِيُّ إنّا أرسَلناكَ شاهِداً وَمُبشِّراً وَنَذِيراً } وقال تعالى: { ذلِكَ يَومٌ مَجمَوعٌ لَهُ النّاسُ وذلِكَ يَومٌ مَشهُودٌ).
فسأل عن الأوّل، فقالوا: ابن عباس، وسأل عن الثاني، فقالوا: ابن عمر، وسأل عن الثالث، فقالوا: الحسن بن علي بن ابي طالب (عليه السلام).
هبت نسمات الفجر الروحانية محملة بعطر العبادة من قبر العابد الساجد وهي تروي لي ومضات من حياته، وتقول انني احتضن من كانت له بين السجدة والسجدة.. سجدة، وبين العبادة والعبادة.. عبادة.. انه ذو الثفنات، فكان كأنه العبادة تمشي على الارض، حيث روي عن طاووس الفقيه انه قال :
رأيته (يعني الامام السجاد) يطوف من العشاء إلى سحر ويتعبد، فلما لم ير أحدا رمق السماء بطرفه، وقال: إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد في عرصات القيامة، ثم بكى .
حيث اتخذ الإمام السجاد عليه السلام من الدعاء درس اساسي في مدرسته التربوية المتكاملة فصاغ ادعيته بمضامين عالية مستمدة من الوحي القرآني.. تعتبر بحق دائرة لجميع المعارف الإلهية .
(اللهم حبّب إلي صحبة الفقراء، وأعنّي على صحبتهم بحسن الصبر، وما زويت عنّي من متاع الدنيا الفانية فاذخره لي في خزائنك الباقية).
إن التأمل في هذه الكلمات يرفع الإنسان الى أعلى مراتب الشعور الإنساني حيث يشعر المرء بحب الصحبة للفقراء.. والابتعاد عن أخلاق الطغاة.. وبالذات (الطغيان الناشئ من الغنى والثروة).
وأما سمو الاخلاق.. فليس بالشيء الغريب فهو ابن الحسين عليه السلام.. وكأن الاخلاق خلقت وتجسدت في محمد وآله.. فكانوا القمم الشامخة.. والاعلام اللائحة ..
فمِما روي في حُسن خُلقه أنه (عليه السلام) دعا مملوكه مرتين فلم يجبه، فلما أجابه في الثالثة قال له: يابُني أما سمعت صوتي؟ قال: بلى. قال: فمالك لم تجبني؟ قال: أمنتك. قال: الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني .
مازال عطر قبره يهب ناشراً اخلاقه وعلمه.. نوره وهيبته.. حتى طغت رائحة العلم من القبر الثالث وهي تقول ها هنا في القبر ربيب مدرسة زين العابدين عليه السلام وجامع علومه.. وارث فضائله ومكارمه انه من بقر العلم بقراً واظهره إظهاراً، فكانت علومه التي يدرسها متنوعة ولم تقتصر على العلوم الدينية حصرا، حيث كانت مدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) وحلقات دروسه تنعقد في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله).. دخل الوليد بن عبد الملك الى المسجد فأتى إلى رواق الإمام الباقر (عليه السلام)، وسلم على الإمام، فتوقف الإمام (عليه السلام) عن التدريس، ولكن الوليد طلب منه المضي فيه، وكان موضوع الدرس الجغرافيا، فاستمع الخليفة إلى حديث الإمام، وكان غريباً على مسمعه. فسأل الإمام؟ ما هذا العلم.
فأجابه: إنه علم حديث يتحدث عن الأرض والسماء والشمس والنجوم .
واندمج عطر قبر الباقر عليه السلام مع نفحات المعرفة والعبقرية التي تنتشر من قبر ابنه الصادق لتحكي فرادته وتميزه.. لتروي شيء من حياة العالم الذي سبق زمانه.. وسبق العلماء في اكتشافاتهم.
فهو سلام الله عليه اول من قام بتخطئة بطلميوس في رأيه بوجود حركتين للشمس، حركة البروج الاثني عشر حول الارض مرة كل سنة، وحركة حول الارض مرة كل يوم وليلة ومن هنا نرى الشمس (حسب نظرية بطليموس) تغيب عنا لكل ليلة في المغرب وتشرق صباحاً.. هي حركة يومية نسبها للشمس .
استحال الامام الصادق عليه السلام امكانية التقاء الحركتين في آن واحد.. لان الشمس لا يسعها مغادرة منطقة البروج لتدور حول الارض!.
مر 560 عام على وفاة بلطيمس ولم يجرأ احد على انتقاده.. بسبب مكانته العلمية وقلة حفاوة الطلاب بالمواضيع العلمية المعقدة .
لم ينتبه احد الى فساد نظرية بطليموس الى ان جاء جعفر الصادق عليه السلام وهو مازال في مطلع شبابه ..
كما ان للامام عليه السلام نظريته الخاصة حول الضوء.. وهي تأكيده بأن الضوء ينعكس من الاجسام الى العين.. (حيث روي ان طبيبا هنديا كان يتحاور مع الامام الصادق عليه السلام.. فدار الحديث حول العيون وانعكاس النور اليه فقال عليه السلام "وجُعِل الحاجبان من فوق العينين ليرد عليهما من النور قدر الكفاية").
وبين عليه السلام سرعة الضوء حين قال (ينعكس كلمح البصر). ولو كان هناك وسائل تقنية حديثة لاستطاع قياس سرعته .
والكثير الكثير من العلوم التي لم تخطر على بال احد وان صادق العترة هو اول من اهتدى اليها .
الا ان كلامه في العلوم لم يكن واضحا ومفهوما لطلاب مدرسة الامام الباقر عليه السلام فكيف بعامة الناس .
مازلت ارتشف من نسمات قبورهم علوماً ونور.. هبت رياح عاتية.. وجهت ذرات التراب الى عيني اهتز القلب وانتبه !
بعد كل تلك الومضات من حياتهم.. ترى جزاءهم.. ترى تقدير اهل الدنيا لهم.. قبور مُهدمة.. مُسيجة.. مُغيبة.. مُظلمة.. مُوحشة... زيارتهم مُحرمة .
ألا يوجد مفتخر بعلومهم.. ألا يوجد عارف بمكانتهم.. ألا يوجد ضمير حي ينصرهم؟!
اثناء كل هذه التساؤلات رفرفت قليلا.. اقتربت من قبورهم اكثر.. خبأت عطرهم بين اجنحتي.. استأذنتهم.. ورحت ارفرف عالياً انشر نفحات ولاءهم.. علني اكتب ناصرة لهم .
انا لست الا حمامة من حمامات البقيع .
اضافةتعليق
التعليقات
العراق2017-07-08
سَألتُ اٌمي قائلةُ:-
لماذا لا تزالين مُحتفظةُ بحذاء أبي هذا!
برغم لديهُ الكثير ، فلم هذا فقط؟
أجابت:-
- ببسمةُ يعتليها الدمعُ :
- لقد ربطتُ لهُ هذا آلحذاء! في آخر فراقــﮧُ عَني ؛ ومآزالت تلك الربطة ؛ احتفظ بها لانــﮧُ جادلني كثيراً بخجل منــﮧُ آيايِ لربطُهآ
.
شهيد
-مروة الموسوي