لم يكن الإمام الحسن (عليه السلام) متعجلاً للصلح، ولا متلهفاً عليه، وإنما ألحت عليه في هذا القرار الأحداث المتراكمة الآثار، فتدارك الخرق قبل أن يتسع وكان عليه أن يصل بالسفينة الهائمة بهدير الأمواج الصاخبة إلى الميناء، وقد استطاع بدرايته النادرة أن يفعل ذلك .
يقول أستاذنا العميد الدكتور طه حسين رحمه الله :
ولم يكن قعود الحسن عن الحرب جبناً أو فرقاً، وإنما كان كراهية لسفك الدماء من جهة، وشكاً في أصحابه من جهة أخرى، وقد تبين له بعد مسيره، وما كان من أمره مع الناس حين بلغ المدائن: أنه لم يكن مخطئاً، ولا سيما بعد أن عرف وفود الأشراف من أهل العراق على معاوية، وأن الذين لم يفدوا عليه قد كتبوا إليه، فكان يقول لأهل العراق: أنتم أكرهتم أبي على الحرب وأكرهتموه على التحكيم، ثم اختلفتم عليه وخذلتموه، وهؤلاء وجوهكم وأشرافكم يغدون على معاوية، أو يكتبون إليه مبايعين، فلا تغرّوني عن ديني.
والحق - كما رأيت من ذي قبل - أن الإمام الحسن لم يقعد عن الحرب، بل الحرب هي التي قعدت عنه، لمجموعة العوامل التي تقدم ذكرها، والإمام الحسن لم يكره أحداً على الحرب، ولم يحمل عليها أحداً قط، وهكذا فعل أبوه أمير المؤمنين الى من ذي قبل، إذ لم يكره أحداً عليها، حتى إذا قامت أكرهوه على التحكيم والحرب لا يساق إليها الناس سوقاً، بل يجب أن تنطلق دوافعها من الأعماق، لأن الحرب الإكراهية لا تفى بمتطلبات النصر، ولا تأتى ثمارها بالظفر، ولو حدث ذلك فسيحدث مهزوزاً هزيلاً لا يحقق البعد الرسالي في أهداف الحرب العقائدية، فهي يجب أن تقوم على أساس قناعات نفسية راسخة، وتعبر عن سخط روحي متأصل، فليست الحرب الشرعية مجرد حركة طائشة حققت غايتها أو لم تحقق، بل هي حرب طوعية تخضع لمواصفات إيمانية لا تشوبها أية أخلاط أخرى لأنها حرب مقدسة والحرب المقدسة عادة ما تكون خالصة من الشوائب.
والإمام الحسن بعبقريته الفذة وقف مترصداً بعمق وحذر، يراقب ما يدور في الساحة، فرأى جيشه عاجزاً تماماً عن خوض الحرب، ورأى عدوه متذرعاً لها بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، ومتأهباً لخوضها في ظل المناورات والأساليب اللا إنسانية، فهو يحاور ويساوم، ويبيع ويشتري يحاور المتزعمين، ويساوم على ما يصح وما لا يصح، يبيع الولايات ويهبها. ويشتري الولاء ويأسره، هذا المناخ بمفارقاته الواسعة العريضة لا يسمح للإمام الحسن بالتفاؤل في نصر مرتقب، بل هو داعية للخذلان والاستسلام، وعلى الإمام أن يرفض هذا الخذلان وذلك الاستسلام، وعليه إذن أن لا يفكر في حرب فاشلة تنتظره على الأعتاب للتطويح به وبالصفوة المختارة من أهل بيته وأشياعه ومحبيه .
ولا خيار أمام الإمام في هذا الضوء إلا الموافقة على صلح مشروط، وفى به معاوية أو لم يف، رضي عنه الناس أم سخطوا، فهذا وحده هو تكليفه الشرعي المتعين، وقدره الرسالي المفروض ولعل الأستاذ الشيخ مهدي شمس الدين من أبرع من سبق إلى كشف طائفة من هذه الحقائق المهمة، يقول :
حدث ونحن حين نسمح لأنفسنا أن نندفع وراء العاطفة، نحسب أنه كان على الأمام الحسن علي أن يحارب معاوية وأن لا يهادنه، وأن ما لم يكن إلا استسلاماً مكن معاوية أن يستولي على الحكم بسهولة ما كان يحلم بها ... ولكن علينا أن نفكر بمقاييس أخرى إذا شئنا فهم موقف الإمام الحسن الذي يبدو محيراً لأول وهلة، فلا شك أن الإمام الحسن لم يكن مغامراً، ولا طالب ملك، ولا زعيماً قبلياً يفكر ويعمل بالعقلية القبلية، وإنما كان صاحب رسالة، وحامل دعوة، وعليه أن يتصرف على هذا الأساس. ولقد كان الموقف الذي اتخذه هو الموقف الملائم لأهدافه كصاحب رسالة، وإن كان ثقيلاً في نفسه، مؤلماً لمشاعره الشخصية . لقد كان من الممكن بالنسبة لقائد محاط بنفس الظروف السيئة التي كان الإمام الحسن محاطاً بها أن يتخذ من الأحداث أحد ثلاثة مواقف :
الأول: أن يحارب معاوية رغم الظروف السيئة، ورغم النتائج المؤلمة التي تترتب على هذا الموقف .
الثاني: أن يسلم السلطة إلى معاوية، وينفض يده من الأمر، ويتخلى عن أهدافه، ويقنع بالغنائم الشخصية .
الثالث: أن يخضع للظروف المعاكسة، فيتخلى موقتاً عن الصراع الفعلي المسلح، لكن لا ليرقب الأحداث فقط وإنما ليكافح على صعيد آخر، فيوجه الأحداث في صالحه وصالح أهدافه. دوما كان للحسن باعتباره صاحب رسالة أن يتخذ الموقف لأنه لو حارب معاوية في ظروفه التي عرضناها وبقواه المفككة المتخاذلة لكانت نتيجة ذلك أن يقتل ويستأصل المخلصون من أتباعه ولا شك أنه حينئذ كان بحاط بهالة من الإكبار والإعجاب لبسالته وصموده، ولكن النتيجة بالنسبة إلى الدعوة الإسلامية ستكون سيئة إلى أبعد حد، فإنها كانت ستفقد فريقاً من أخلص حماتها دون أن تحصل على شيء سوى أسماء جديدة تضاف إلى قائمة شهدائها .
كذلك ما كان باعتباره صاحب رسالة أن ينفض يده من كل شيء، ويسترسل في حياة الدعة والرغد والخلو من هموم القيادة والتنظيم .
ولقد كان الموقف الثالث وهو الموقف الذي اتخذه الإمام الحسن - هو الموقف الوحيد الصحيح بالنسبة إليه، وذلك أن يعقد مع معاوية هدنة يعد فيها المجتمع للثورة .
وذلك لأننا نسمح لأنفسنا أن نقع في خطأ كبير حين نساق إلى الاعتقاد بأن الإمام الحسن قد اعتبر الصلح خاتمة مريحة لمتاعبه، فما صالح الإمام الحسن ليستريح، وإنما ليكافح من جديد، ولكن على صعيد جديد. فإذا كان الناس قد كرهوا الحرب لطول معاناتهم لها، ورغبوا في السلم انخداعاً بجملة الدعاية التي بثها فيهم عملاء معاوية إذ منوهم بالرخاء والأعطيات الضخمة، والدعة والسكينة، وطاعة لرغبات زعمائهم القبليين، فإن عليهم أن يكتشفوا بأنفسهم مدى الخطأ الذي وقعوا فيه حين ضعفوا عن القيام بتبعات القتال، وسمحوا للأماني أن تخدعهم، ولزعمائهم أن يضللوهم، ولا يمكن أن يكتشفوا ذلك إلا إذا عانوا هذا الحكم بأنفسهم.
عليهم أن يكتشفوا هذا الحكم ودوافعه، وما يقوم عليه من اضطهاد وحرمان ومطاردة مستمرة، وخنق للحريات، وعلى الإمام الحسن وأتباعه المخلصين أن يفتحوا أعين الناس على هذا الواقع، وأن يهيئوا عقولهم وقلوبهم لاكتشافه، والثورة عليه، والإحاطة به .
إن التجربة المريرة التي عايشها الإمام الحسن بأبعادها الباهتة لا يمكن لها أن تتمخض بأكثر من الرضوخ للأمر الواقع الذي لا يمكن تجاوزه في أي حال من الأحوال، أما ارادة كل شيء من الإمام علي دون إعطاء أي شيء له فهو ضرب من الهذيان ونسيج من الثرثرة لا يقوم على أساس من المنطق السليم، وسترى في الصفحات المقبلة أصالة هذا العرض، وستجد عند مسيرة الصلح الاستراتيجي الدقيق حقيقة ما اكتشفه العراقيون أنفسهم، وظواهر ما فضح به النظام الأموي نفسه غدراً وإباحة واستهانة، وما تبع ذلك من خنق الأنفاس، ومصادرة الحريات، واحتجاز الأموال، وقتل الأبرياء، وهدم البيوت وتشريد الأحرار، وسوق أهل العراق سوق العبيد والإماء، وضرب القبائل العربية بعضها ببعض، وتصفية المعارضة جسدياً، وقمع التحرك الداخلي بقسوة لا مثيل لها في التأريخ، ذلك ليصفوا الحكم خالصاً لمعاوية وعماله وولاته .
وسترى فيما بعد جوهر التخطيط الرسالي الهادىء للإمام الحسن وهو يثبت قواعد الثورة للإطاحة بالحكم الأموي، فما خلق الإمام الحسن ليريح أو يستريح، بل ليناضل ويكافح في معركة البناء والتغيير .
وما كان الإمام لينخدع بالإنفعالات الطائشة في صنع القرار، بل عليه وهو يتمتع بعقلية القائد الرسالي أن يتصرف في ضوء الأسس الثابتة فيما يؤسس ويقرر، وكما تستأثر الحياة الثورية بتغيير الواقع السياسي أحياناً، فقد تستأثر الحياة الرسالية الهادفة بتغيير الواقع الاجتماعي، وكلتا الحالتين تتكفلان بالانفجار الجماعي الذي يعنى بشكل من أشكال الحسم الثوري لفرض الإرادة الإصلاحية في كيان الأمة ووجودها. ومن خلال هذا المنظور الاستراتيجي المحدد، وجدنا الإمام الحسن عالم يستأثر بالحياة الرسالية لتغيير الواقع، فيضطر إلى الصلح المشروط .
اضافةتعليق
التعليقات