ترى كيف يجب أن نحل هذه المشكلة، ومن الذي يجب أن يتحمل هذه المسؤولية؟
إن من الطبيعي أن يضطلع بهذه المسؤولية الخطيرة علماء الدين الواعون، الملتصقون بالنصوص الدينية والعارفون بالروح الحقيقية للاسلام، والقيم التي ينشروها، والمطلعون على الأسلوب الذي يستخدمه القرآن، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والأئمة المعصومون، والفقهاء الكبار.
هؤلاء العلماء هم المسؤولون عن حلّ تلك المعضلات، وهم الذين جاءت فيهم الرواية الصحيحة التي تقول: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فأنهم حجتي عليكم، وانا حجة الله"، فهم الذين يستطيعون التمييز بين الحلال والحرام، وبين التطوير والتغيير والتقدم، وبين الانحراف والشذوذ والضلالة والبدعة.
ومن الطبيعي أن يكون بين طلاب المدارس العلمية وهم يدرسون الآن الكتب الفقهية والدينية من يجب أن يتحمّل هذه المهمة الصعبة في المستقبل، فهناك الآن قوانين عديدة ومختلفة في العالم؛ هناك مثلاً: القوانين التجارية، والزراعية، والصناعية.. وما إلى ذلك، والآن يوجد في العالم أكثر من سبعين ألف قانون، وهي قوانين متطورة وبحاجة إلى من يعرف الإسلام حقاً، ويعرف طبيعة المجال الذي وضعت فيه، ثم يستلهم من القيم الإسلامية بحيث تصبح هذه القوانين منسجمة مع أحكام الشريعة الإسلامية. ولذلك فأنا بحاجة إلى المجتهدين والمفكرين، وهذه الحاجة ليست آنية عاجلة، بل هي دائمة ومتطورة.
من هنا ليس من السهولة بمكان أن نعي حقيقة أحكام الإسلام لأسباب منها:
١ - أن المسلمين أهملوا فهم الإسلام، والتعمق فيه.
٢ - أن الإسلام بمصادره الأصيلة الخالصة بعيد عن عصرنا بمقدار أربعة عشر قرناً، فالمفسرون الحقيقيون للقرآن ليس لهم وجود بيننا، وكتب الفقهاء ليست بتلك السهولة والبساطة بحيث يستطيع الإنسان العادي أن يستقي منها المعلومات، كما إن الأحاديث والروايات متداخلة، ولغتها مختلفة عن لغتنا، وليس من السهولة أن نفهم أساليبها، والدليل على ذلك إن المجتهدين والفقهاء يتعبون أنفسهم لسنين طويلة، ويواصلون البحث والتحقيق ليل نهار، ومع ذلك فأنهم قد لا يصلون إلى نتائج أكيدة في بعض المسائل، ولذلك فإننا كثيراً ما نجد في كتبهم، ورسائلهم العملية كلمات من مثل: الأحوط، والأقوى، والأولى....
وفي المقابل فإذا أراد شخص أن يدوّن الإسلام الذي في ذهنه فإن باستطاعته أن يأخذ قلماً ويكتب مواد قانونية، ويبدل، ويغير دون الإلتزام بنصوص، إلا أن هذا ليس من الإسلام في شيء، بل هو الضلال بعينه ولا يمكن أن ينفع الأمة الإسلامية، أما الإسلام الذي نريد أن نستنبطه من القرآن فأننا لا نستطيع الوصول إليه إلا إذا تدبرنا على الأقل في القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته، وعرفنا الكلمات والمصطلحات القرآنية معرفة دقيقة.
وهناك بعض الآيات القرآنية يتوقف عندها المفسرون ويصفونها بأنها من الآيات المتشابهة التي تحتاج إلى التأويل، وهكذا الحال بالنسبة إلى الروايات والتأريخ الإسلامي، فإننا يجب أن نحيط بهما علماً.
إنني أريد أن أستنتج من كل ذلك حقيقة واحدة؛ وهي إن الذي يريد أن يقوم بهذا الدور البناء العظيم أي دور استنباط الأحكام الشرعية ويكيفها مع حاجات ومقتضيات العصر، والذي يريد أن يهدي الناس إلى القوانين الإلهية، ويصبح وريثاً للأنبياء عليهم السلام كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أن العلماء ورثة الأنبياء"، (۱) ويكون نظيراً لأنبياء بني إسرائيل كما جاء في حديث آخر: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، (۲) والذي يريد أن يكون ممثلاً لحكم الله في الأرض، وحكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام)... ان الذي يطمح إلى بلوغ هذه المرتبة العالية عليه أن يخصص لهذا الطموح العالي المقدار المناسب له من الإمكانيات والارادة والعزم، والتصميم.
فمن يريد الوصول إلى السوق القريب من منطقته، فإنه يحتاج إلى ارادة بقدر مائة خطوة يخطوها إلى السوق. أما الذي يريد أن يصل إلى الطرف الآخر من الكرة الأرضية، فيجب أن تكون إرادته أكبر حسب بعد المكان الذي يطمح أن يصل إليه، فالذي يطمح أن يكون خطيباً بارعاً، ومؤلفاً ومفكراً وقائداً، يجب أن تكون ارادته بقدر ما يطمح إليه، وكما قال الشاعر :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم.. فبقدر عزيمة، وارادة، وتصميم وعطاء الإنسان يكون طموحه، وتطلعه، وبلوغه الأهداف، وتحصيله للعلم. ومن هنا فإن الدراسات التقليدية هي أشبه ما تكون بالسدود المنيعة والحصينة التي تمنع تسرب الأفكار المغلوطة إلى أذهاننا، وعقولنا. فبقدر ما نقرأ الجرائد، ونستمع إلى الإذاعات ونتعرف على الأفكار الحديثة، فإن هناك خطر احتمال تسرب الأفكار الباطلة إلينا، كما تسرّبت هذه الأفكار إلى الكثير من الذين انحرفوا فيما بعد رغم أدائهم للفرائض والعبادات.
وتأتي على قدر الكرام المكارم.. وهكذا فإننا بحاجة إلى سدود تمنع عنا تلك التيارات الفاسدة، وإلى حصون تحول دون تسرب الأفكار والثقافات الدخيلة إلى أذهاننا، وهذه الحصون تتمثل في تطوير العلوم الدينية، وتقديم تفاسير مفهومة وواضحة للقرآن الكريم، وتدوين وتبويب متون الأحاديث والروايات الشريفة وتذليل المشاكل الفقهية والأصولية حتى تتحقق تلك الطموحات.
وفي هذا المجال نحن بحاجة إلى جهود متواصلة دؤوبة لكي نستطيع فهم القرآن، والأحاديث الثابتة السند؛ أي أن نتدبر تدبراً عميقاً في مصادرنا الدينية مثل؛ القرآن والأحاديث النبوية الشريفة، ونهج البلاغة، والصحيفة السجادية، والأدعية وما إلى ذلك، من أجل استخلاص روحها وقيمها. وعلى سبيل المثال؛ فإن في القرآن ستة آلاف آية.
كل آية إذا أردنا أن نتفكر فيها لمدة ساعة فإننا نكون بحاجة إلى ستة آلاف ساعة لكي نفهم القرآن الكريم.. ومع ذلك فإن هناك هوامش غير واضحة تبقى بعد عملية التدبر. فمن الممكن أن يتدبّر الواحد منا في آية ويبحث فيها، ويكتب عنها، وإذا به بعد أن يتدبّر في نفس الآية من جديد يستخلص منها أفكار جديدة لم تكن قد خطرت على باله من قبل.
وعلى هذا فإن علينا أن لا نمل من كثرة الدراسة والتحقيق، أو أن نعتبر الدروس والكتب التي نقرؤها روتينية، بل أنها تحتاج إلى جهد واستمرارية، ومطالعات مكثفة، وإرادة قوية، وعزم راسخ.
اضافةتعليق
التعليقات