قال تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ۚ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ، تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَۖ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَٰذَاۖ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}.
ومع هاتين الآيتين نختم قصة نبي الله تعالى نوح (عليه السلام) في سورة هود، بإشارات ثلاث:
الإشارة الأولى: الرسالي بركة دائمة وسلام ممتد
هذه الآية وكأنه تعالى يقول لنبيه إكراماً لعبوديتك واخلاصك في أداء تكليفك، لك منا سلام وبركات، فهذه البركات لم تكن له فقط بل ستصل آثارها إلى الأمم التي معه ممن ستتبع نهج السماء وتسير على خط الأنبياء، وستشمل حتى تلك التي لم تؤمن -كما أشارت نفس الآية بقولها {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ولكن في النهاية لن يدوم التنعيم وستنال مثل هذه الأمم جزائها، فهذه سنة كونية إلهية كلاً يجازى بما آمن وبما كفر، وبما عمل خير كان أو شر.
الإشارة الثانية: الرسالي عند تحقق النصر الإلهي يبقى بين خوف ورجاء
وهنا مفردة {اهْبِطْ} وكأن فيها اشارة إلى تحقيق التوازن النفسي بين الفرح بما نالوه من عزة وكرامة ونصرة إلهية وبين أن لا يطمئنوا بأن هذا مؤشر لعصمتهم من أن ينحرفوا أو تزل يوماً ما قدمهم -وبتعبير آخر- هذه البركات والسلام على المستوى الجزئي الدنيوي لا الكلي الأخروي، فالعودة للعيش في الدنيا بعد النجاة من بلاء الإغراق الذي هلك به وغادر الدنيا بسببه الكثير هو هبوط للداني لا عروج أو التحاق ملكوتي؛ فالدنيا تبقى دنيا.
حتى أن نفس كتاب الله تعالى عبر عن نزول آدم (عليه السلام) للدنيا بالهبوط إذ أن المكوث في الدنيا لنا هو هبوط لأنها العالم الداني، أما العروج فهو للعالم الأخروي وهو حقيقة الترقي والتسامي، لذا فهذا التعبير يشير إلى أن ما أنتم به الآن هو الشيء ذاته والحقيقة ذاتها فلا تغفلوا عنها، فكل نجاة ونجاح تنالونه كمؤمنين في الدنيا هو جزء من رحلة غير مكتملة و ثمرة غير ناضجة، سترونها خالصة فقط عند مغادرة هذا العالم، فلا تغتروا ولا تطمئنوا..
وهنا الخطاب كان إلى المُرسل إذ قالت الآية {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ}، وليس إلى العامة ممن معه، فكم هي إذاً حقيقة خطرة وقد يسهل الغفلة هنا ونسيانها، وكم علينا بالمقابل تذكرها ووضعها أمام أعيننا دائماً.
الاشارة الثالثة: ختام ومفاد لكل رسالي
وهكذا ختمت لنا هذه السورة قصة هذا النبي بقوله تعالى {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَۖ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَٰذَاۖ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}، إذ عبرت عن هذه القصة بأنها انباء غيبي موحى إلى النبي محمد (صلى الله عليه وآله) - وهي لكل موحد تالي لكتاب الله فهو مخاطب بهذه الآية -بالنتيجة هذا التعبير الإلهي {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ} فيه إشارة إلى تقديم شيء عزيز وفضل كريم منه سبحانه للنبي لمواصلة مسيرته الرسالية.
وهو ما أتى بعدها بقوله {هَٰذَاۖ فَاصْبِرْ} أي الغاية من هذه الأنباء الغيبية هو حيازة الصبر ذلك المفتاح الذي به يُدخل الرسالي هذا الميدان، ويتعلم به طرق الدعوة بإتقان، فالصبر ليس نافع في مواصلة المسيرة فقط بل نافع في تحقيق البصيرة تلك التي من خلالها يضع أمامه ما ينتظره من حسن الخاتمة، وبلوغ عاقبة المتقين الأبرار، وهكذا يكون ممن يواصل فلا ينفصل، يرتقي فلا يتوقف.
اضافةتعليق
التعليقات