من الطبيعي أننا نحب من يحبنا وخاصة الدائرة المقربة لنا، بل وحب كبير نكنه في صدورنا اتجاههم لمواقفهم الرائعة معنا ولتضحياتهم من أجلنا، لكن إن تمعّنا قليلاً لرأينا أنّ الحب الحقيقي لا يؤذي الطرف الآخر، هو خالٍ من التعلق المرضي، هو أن لا نقيّد ولا نتحكّم به كثيراً ولا نجعله المسؤول عن سعادتنا .
انتبهوا، التحرر العاطفي لا يعني الإهمال أبداً، "الإهمال وعدم اللامبالاة" من الأمور "الهدّامة" للحب . ولا يوجد هنالك شخص عاقل يحب أن يتم تجاهله أو أن يُهمَل من جانب الحبيب، الإهمال جداً خطير ويسبب الفتور والبرود وانطفاء شعلة الحب بينكما . لكن التحرر العاطفي باختصار هو أن لا تربطوا سعادتكم بأحبتكم . و"لا تتوقعوا منهم أبداً" . بل عندما ترون منهم أي عمل جميل، ترونه على أنه لطف وتتشكرون منهم، لا على أنها وظيفة!. هكذا ستكثر جاذبيتكم في أعينهم . فالجاذبية والحب الذي لا زوال له يأتي من التصرفات والأفعال الجميلة. وهكذا سترتفع عزة نفسكم كثيراً .
المرونة تجلب المحبة :
کن إنساناً مرناً مع الآخرین وخصوصاً مع أحبتك، كي لا يقدر على كسرك أحد، طبعا وفي نفس الوقت ينبغي أن تكون لديك خطوطك الحمراء، ومبادئ لا تسمح بأن يتجاوزها أحد، وأن تبيّن لهم ذلك ليكونوا على علم بذلك وتذكرهم مراراً وتكراراً إن التزم الأمر .
الحب لشخصك المقرب بلا تعلق هو: حبه، احتواءه، فهمه، الإنصات له، أن تكون لدينا دائما حسن ظن به، نكوّن علاقة صداقة قوية معه، نكون صادقين معه، إعطائه طاقة عندما يحتاجها، تشجيعه، تقديره، وإعطائه رسالة أنه هو الأولوية في حياتنا، ونسامحه، فليسوا أحبتنا بمعصومين ولا نحن!.
ملاحظة: ولكن هذا ليس معناه أن نكون دائماً مطيعين له في كل الأحوال! ولا أن لا نقول ما نريد وما نحتاج . نحن أيضاً لنا احتياجات، نحب أن ينصت لنا ويحتوينا الطرف الآخر، وهو في الأغلب الأحيان لا يعلم بما نريد . الحل أن نقول بصراحة وأدب وبلسان حسن ما نحتاج وما نحب وما هو رأيي في موضوع معيّن، لكن لا أن نجبره يفكّر كما نحن نفكّر، نعطيه دلائلنا ونوضح له لكن نجعله في الأخير هو الذي يقرر، نعطيه حرية القرار ونكون مرنين معه، فعندما نکون مرنين، بالتدريج سيلين معنا غالباً . هكذا حب سليم سيجعلكم قرة عين لبعضكم البعض ويحافظ على الحب بينكم بإذن الله تعالى .
أنا أشبّه الحب على أنه "كالعصفور باليد" . إن أمسكت العصفور بقوة ستقتله، وإن أفلته سيطير ويرحل عنك، لكن إن أمسكت به "بحنان ورفق" سيكون في يدك، لأنه مكان مريح له ويشعر من خلاله بالأمان والدفء، هكذا هو الحب .
عن أمير المؤمنين علي (سلام الله عليه) في حق زوجته مولاتنا فاطمة الزهراء (سلام الله عليها): "فو الله ما أغضبتها، ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله عز وجل، ولا أغضبتني، ولا عصت لي أمرا، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان" . بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج٤٣، الصفحة١٣٤ .
كانت (عليها السلام) "قرة عين لزوجها" بل المثال الأعلى لهذه لعبارة . وهو أيضاً (سلام الله علیه) کان "قرة عين لزوجته" . فهم (صلوات الله عليهم) قدوتنا في جميع تصرفاتهم وحياتهم، ونحن نخطوا على خطاهم إن شاء الله .
علاج التعلق السلبي هو بالتعلق الإيجابي :
ليس كل التعلق هو سلبي ومؤذٍ . هنالك نوعان من التعلق : تعلق سلبي وتعلق إيجابي . التعلق السلبي كما ذكرنا هو تعلق بالأشخاص وبالأمور الدنيوية التي حكمها حكم الزوال في هذه الدنيا، وليس فيها كمال . أما التعلق الإيجابي فهو البديل والعلاج للتعلق السلبي، يجعل شعورنا رائعا وبالنا مطمئنا ويهدينا راحة نفسية لا مثيل لها . لأننا تعلقنا بالكمال الذي لا نقص فيه . بل ولابد منه لنيل السعادة في الدارين .
"التعلق الإيجابي" هو التعلق "بالله" تعالى و"بأوليائه" (سلام الله عليهم) . بل إن التعلق وجِدَ ليكون فقط لهم، فترى الإنسان كلما إزداد في إيمانه إزداد عطشه وحبه يوما بعد يوم . وبتعبير الشاعر :
شربتُ الحب كأساً بعد كأسٍ ... فما نفدَ الشراب ولا رويت ...
"قلب الإنسان" بحسب الفطرة التي فُطر عليها لا ينبغي أن يتعلق بالنقص وبما يسبب له الضرر . بل ولا يمكن أن يتعلق بالشيء الفاني، ففي أعماق كل إنسان فطرة ينبع منها هذا الحب، وهي لا تريد ولا تطلب سوى الكمال المطلق .
وقد أرسل الله تعالى الأنبياء إلى الناس، ليس لأجل وضع الفطرة فيهم أو إنشائها في بواطنهم، فقد وضع الله تعالى فيهم هذه الفطرة في عالم الذر، وهذا كله من أجل هدايتهم وليكون طريق الحق واضحاً لهم، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويُذكّروهم مَنسِيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويُثيروا لهم دفائن العقول" .
بعبارةٍ أخرى بُعثوا ليدلّوهم ويذكروهم على المصداق الواقعي للتعلق والحب الذي ينشدونه، وهو الحقّ جلّ وعلا، حتى إذا سيطرتْ محبّته على القلب زالت كل التعلّقات الأخرى وعلى رأسها حب الدنيا على قاعدة "عظُم الخالق في أنفسهم فصغُر ما دونه في أعينهم"، فيزول الانجذاب والتعلق بالزائل الفاني، ولا تتعلّق قلوبهم إلا بما يرتبط بمحبوبهم كالمعصومين (صلوات الله عليهم) الذين هم مرتبطين بالله تعالى، فهم وجه الله ويد الله وعين الله ولسان الله سبحانه في الدنيا والآخرة. هذا التعلق الذي يعتبر تعلق إيجابي ومفيد لنا وهو الذي نستفيد منه في الدارين. عندما نموت لن ينفعنا أحد سوى الله والمعصومين. فكلما قوت علاقتنا بهم زاد حظوظنا وسعادتنا .
قد نتساءل كيف يكون مفيد لنا؟ لأنه كلما زاد "تعلقنا" بهم كلما شملتنا "نظرتهم الخاصة" على حياتنا، وارتفعت منزلتنا أيضاً في الآخرة بسبب هذا الحب والتعلق .
ومن جميل ما ورد في قصص المحبّين للعترة الطاهرة أنه تحدث الإمام أبو جعفر (عليه السلام) في جملة من أحاديثه مع جماعة من شيعته عن حب أهل البيت (عليهم السلام) وما يترتب عليه من مزيد الأجر عند الله تعالى وفيما يلي ذلك :
وفد عليه جماعة من شيعته من خراسان فنظر (عليه السلام) الى رجل منهم وقد تشققت رجلاه فقال (عليه السلام) له : ما هذا؟ فقال : بعد المسافة يا ابن رسول الله والله ما جاءني من حيث جئت إلا محبتكم أهل البيت فقال (عليه السلام) : أبشر فأنت والله معنا تحشر .
وطار الخرساني فرحا وراح يقول : معكم يا ابن رسول الله؟ ..
قال (عليه السلام) : نعم ما أحبنا عبد إلا حشره الله معنا وهل الدين إلا الحب إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] .
- وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : "أثبتكم على الصراط أشدكم حبا لي ولأهل بيتي" .
أي كلما زاد الحب والتعلق بهم زادت فرصتنا للنجاة وعظمت منزلتنا .
- وعنهم (عليهم السلام) : "إن الجنة لتشتاق ويشتد ضوءها لمجىء آل محمد (صلوات الله عليهم) وشيعتهم ولو أن عبداً عبد الله بين الركن والمقام حتى تتقطع أوصاله وهو لا يدين بحبنا وولايتنا أهل البيت ما قُبِل منه " .
- وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : "من رزقه الله حبّ الأئمّة من أهل بيتي فقد أصاب خير الدنيا والآخرة. فلا يشكّنّ أحدٌ أنّه في الجنّة. فإنّ في حبّ أهل بيتي عشرين خصلة، عشر منها في الدنيا، وعشر في الآخرة. أمّا في الدنيا فالزهد، والحرص على العمل، والورع في الدين، والرغبة في العبادة، والتوبة قبل الموت، والنشاط في قيام الليل، واليأس ممّا في أيدي الناس، والحفظ لأمر الله (عزّ وجلّ) ونهيه، والتاسعة بغض الدنيا، والعاشرة السخاء. أمّا في الآخرة: فلا يُنشر له ديوان، ولا يُنصب له ميزانٌ، ويُعطى كتابه بيمينه، ويُكتب له براءة من النّار، ويُبيّض وجهه، ويُكسى من حلل الجنّة، ويُشفّع في مئة من أهل بيته، وينظر الله عزّ وجلّ إليه بالرحمة، ويُتوّج من تيجان الجنّة، والعاشرة يدخل الجنّة بغير حساب" .
أرأيتم الآن ماذا يفعل التعلق بأهل البيت (صلوات الله عليهم) وكيف يسعدنا في الدنيا والآخرة وينجينا من أهوال يوم القيامة؟
فحبهم والتعلق بهم يُصفّي جوهرنا من الدنس . إنّه يمحو الصفات الرذيلة الناشئة من الأنانية أو من البرود وانعدام الحرارة، كالبخل، والجبن، والكسل، والتكبّر والعجب . إنّه يزيل الحقد والحسد، لأنّه يولّد القوة والرقة والصفاء والاتحاد والهمة، ويقضي على الضعف والجبن والكراهية والتفرّق والبلادة، ويُنقي الروح من الشوائب، ويزيل الغش ويجعل "العيار خالصاً".
إذا طبقتم هذه القاعدة "عدم التعلق بالناس" وبالمقابل يكون "التعلق فقط بالله تعالى وبالمعصومين (صلوات الله عليهم)" سترون كم أنّ "البركات" و"النعم" ستتدفق بشكل خيالي في حياتكم وأهمها أنه ستكون لديكم "راحة بال" بشكل عجيب واطمئنان خاص يملؤكم لم تكن لديكم من قبل . ستعرفون "قدر أنفسكم" أكثر وتحبونها أكثر، طبعا ليس بشكل أناني، لكن تكون نفسكم عزيزة فتخافون عليها من الذنب وكل ما يؤذيها .
عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : "أفضل الحكمة معرفة الإنسان نفسه ووقوفه عند قدره" ميزان الحكمة، ج٣، ص١٨٧٦
اضافةتعليق
التعليقات