هنالك مقولة رائعة لشكسبير جاء فيها: "إن الإنسان يتغير لسببين؛ حينما يتعلم أكثر مما يريد أو حينما يتأذى أكثر مما يستحق". كل إساءة هي (جرح هجر) وإن لم تحتوِ في حقيقتها على لفظ أو نبذ أو ابتعاد مكاني، ولكنها نزع للمرء من تربة أمانة، ومن بيئته الحاضنة. والبيئة الحاضنة هي بيئة شعورية في حقيقتها وليست مجرد بيئة مكانية. فكم من بيت لم يكن يظلنا سقفه وإن احتوى أجسادنا، وكم من منزل لم يكن يؤوينا في حقيقته وإن حاز أجسامنا، بل كنا نحتاج إيواء من قسوة إيوائه.
لذا فالإساءة في حقيقتها هي نوع من الهجر؛ حيث تحمل البيئة الشعورية الحاضنة نفسها وترحل عنا، تتركنا الإساءة (عراة شعوريا)، (لاجئين نفسيا).
إن أهل الإساءة هم أهل الهجر النفسي، (المنفيون شعوريا)، لا يمكنهم أن يشعروا بالوطن في أي بقعة، ليس لأنهم قد اغتربوا عنه، ولكن الوطن هو من رحل عنهم!
وما الوطن بالنسبة لإنسان يتكون؟ هو ببساطة مساحة صغيرة من دائرة نصف قطرها الأيمن ذراع أبوي، والأيسر ثدي أمومي، ومحيطها هو (حالة الاحتضان) الشعوري والجسدي لتهدئة خوف الصغير من عالم غريب ويهدده. أي أن الأسرة ببساطة هي بيئة احتضان (تهدَوِيَّة) لقلق مقابلة الوجود، يدخلها الإنسان لتحميه في البدايات لحين اكتمال نمو أدواته الخاصة التي يتمكن عبرها من مقابلة الوجود بشكل فعال وذاتي، هي ضرورة تطورية للطفل البشري (واحد) من أطول الأطفال عمرًا في الطفولة والاعتمادية في المملكة الحيوانية بأسرها.
تمنحه بدائل مؤقتة لأدوات المواكبة التي لم تنشأ بعد فيه لمواجهة العالم، أي أنها ضرورة بقاء. وغياب تلك البيئة لا يهدد بقاء الكائن في طفولته فقط، بل يُعطل من نمو أدوات التعامل مع العالم تلك، مما يهدد بقائه حتى بعد بلوغه أيضًا.
وهنا لا نتحدث عن التربية أو عن تعليم مهارات لهذا الطفل لكي يجابه العالم، فالطفل ليس لوحًا أبيضا فارغا يكتب فيه الأبوان والمجتمع الأول ما يشاء، فالأب والأم لا يُعلمان ابنهما شيئًا في الحقيقة، إنها كأننا نتحدث عن (برعم) أو عن (بذرة) تحمل داخلها كافة إمكانات (الشجرة)، فقط تحتاج التربة خصبة وبعض السماد وماء الري لنمو تلك الإمكانات منها. لا يمكننا أن نرى أن المحيط هو ما أنشأ أوراق تلك الشجرة، إنما فقط وفّر لها ظروفًا مواتية وداعمة للنمو وميسرة له لا أكثر، لتستخدمه الشجرة بتلك البرمجة الداخلية فيها لتنمو وتثمر وتصير أنموذجا نهائيا للإمكان الموروث داخلها.
وغياب البيئة الداعمة للنمو والميسرة لتفعيل الإمكان، ماذا يفعل؟ يخرج نبتات شائهة، هذا إن لم تذبل وتنزوي وتموت. فالنسر البالغ لا يُعلّم فراخه الطيران، إنما فقط يُفعل إمكان الطيران المجبول عليه جينيا. والأبوان لو لم يفعلا شيئًا سوى توفير الحب الصحي والقبول وكف أذاهما؛ لكان الناتج أفضل كثيرًا وأكثر راحة واتساقا داخليا من منتوجات المحاولة الشائهة للكتابة بالإساءة على لوح أبيض يظنان أنهما يمتلكانه! الإساءة تقوم بتجميد النمو في مراحله النفسية الأولى، وتحرم الناشئ من تكوين جعبة أدواته لمواجهة العالم، لذا يخرج شاعرًا بالتهديد، وهو أكثر من ذلك التهديد الذي شعر به يوم أن جاء للعالم وعلم أن عليه مواجهة الوجود، فآوى إلى بيئة تمنحه احتضانًا مؤقتًا لحين نمو أدواته، فلم يجد لديها سوى مزيد من التهديد والاغتراب.
لذا قد شعر الناشئ بنوع من التهديد المركب: (تهديد الوجود الأصلي) مضافًا إليه (تهديد هجر البيئة الحاضنة). لذا يتخبط هذا الكائن المحروم من أدواته، مع خفقات القلب المرتعد داخله باحثًا عن تسكين لذلك التهديد، أو عن تلاه عنه.. فيبحث عن ذلك في العلاقات حينًا، وفي الانعزال المفرط حينا، وفي السلطة حينًا، وفي الشهرة حينًا، بل وفي الإدمانات أحيانًا.
فالإدمان ليس في حقيقته سوى محاولة هروب من ذلك التهديد المركب لشخص بلا أدوات لمواكبة الضغوط؛ الإدمان بكافة أشكاله المخدرات، الكحول، الجنس، الإنفاق، العلاقات، الطعام، بل حتى تعاطي الدين نفسه كمحاولة تسكين للقلق المضاعف؛ هو نوع من المواكبة المغلوطة، أو ببساطة.
هو أدوات بالية لشخص يسير عاريًا في غابة الوجود؛ أدوات التقطها احتياجا لا اختيارًا. يقول أحدنا: "كنت طول عمري حاسس إني مليش جذر؛ ملیش بیت. كنت حاسس بشعور اللاجئ اللي حياته كلها بيدور على وطن يقبله أو انتماء يناسبه أو جنسية تساعه أو مكان يحتويه. كان جوايا دايما شعور عميق إني مش مرتبط بالوجود ده، وإني شيء إضافي مُقحم ودخيل!" .
نستخلص أن الإساءة كلها جرح هجر نفسي للبيئة الحاضنة أدى إلى تجمد النمو مع شعور مركب بالتهديد، وأدوات مواكبة معطوبة نسميها آليات الدفاع .Defense Mechanisms) لذا فإن جزءًا أصيلاً من التعافي من الإساءة يكمن في الحصول على علاقة شافية، أو ببساطة بيئة حاضنة بديلة لتلك البيئة التي هجرتنا قد يوفرها طبيب مختص، أو معالج موثوق، أو صديق أمين، أو... ] لاستكمال النمو المتجمد، مع محاولة تفعيل أدوات أكثر فعالية لمواكبة الضغوط، والتعامل مع قلق (الوجود هنا والآن) في هذا العالم النسبي الذي يظلله العبث واللامعقولية.
اضافةتعليق
التعليقات