لا بد لأي دراسة نفسانية للتخلف، من وقفة هامة عند العقلية التي تحكم السلوك وتحدد النظرة إلى الكون. العقلية المتخلفة أو الذهنية المتخلفة، تحتل مكاناً بارزاً في الآراء الشائعة عن التخلف، حتى يكثر الربط بين هذه الظاهرة ونمط التفكير والنظرة إلى الأمور. فالتخبط الذهني، والفوضى، والعشوائية، وسوء التخطيط والارتجال كلها تعد من ملامح التخلف الأساسية .
تنبع أهمية دراسة الذهنية المتخلفة وخصائصها من الدور الحاسم الذي يلعبه الفكر في تقدير الواقع وتكوين الأحكام الموجهة للسلوك. هذه العقلية إذا اتصفت ببعض الخصائص التي تجعل ملامستها للواقع سطحية، عاجزة عن الغوص فيه والسيطرة عليه، وإذا اتسمت بالجمود والقطيعة، تؤدي إلى خلق عقبات معرفية جدية تعرقل خطط التنمية التي لا بد أن تنطلق من التقدير الدينامي الشمولي لذلك الواقع إنها تعطي المبررات الذهنية لمقاومة التغيير.
والأخطر من الأمرين معاً احتمال إعادة تفسير المنهجيات النظرية والأساليب التقنية المستخدمة في التنمية، من خلال القوالب التقليدية للذهنية المتخلفة، مما يفقدها بدورها قدرتها التغييرية، أو على الأقل يحد منها إلى درجة كبيرة .
لا بد لنا أن نكون منهجيين في دراستنا للعقلية المتخلفة. وأول شروط هذه المنهجية الاعتراف بحدودنا الذاتية...
الحديث عن العقلية المتخلفة يتضمن مرحلتين، الأولى رصد الملامح والخصائص الأساسية، أما الثانية فهي محاولة بحث الأسباب والقوى المولدة لهذه العقلية، التي تغذيها وتعمل على استمرارها .
أولا: الخصائص الذهنية للتخلف
الملامح الذهنية للتخلف متعددة ومتنوعة. قابلة للانتظام في موضوعات أساسية، وأخرى متفرعة عنها تبعاً للمنظور الذي يتخذه الباحث. ونحن لا يسعنا أن نكتفي بمجرد سرد هذه الملامح وتوضيح كل منها، بل لا بد من تبيان الرابطة بينها، ما أمكن، من خلال تصنيف يبدو لنا أكثر منطقية وواقعية من سواه: هناك من ناحية خصائص ذهنية منهجية، ومن الناحية الأخرى خصائص ذهنية انفعالية. ترتبط الأولى باضطراب منهجية التفكير، وقصور التفكير الجدلي. أما الثانية فتختص بتبيان تدخل العوامل الذاتية والعقلانية في النظرة إلى الوجود.
هذه النظرة تختلف في البلدان المتقدمة عنها في البلدان النامية. فبينما الأولى تسير نحو مزيد من التجرد من الانفعال وتنحو نحو الموضوعية، ترى الثانية ما زالت أسيرة الانفعال والذاتية والغيبية، وخصوصاً أسيرة نظام القهر (التسلط والرضوخ)، الذي يحكم الوجود المتخلف. على أن تقسيماً كهذا لا يعني انفصالاً على مستوى الواقع والممارسة. فالعقلية المتخلفة هي جزء من ظاهرة كلية. هي الوجود المتخلف الذي يتصف بالدينامية والتماسك الداخلي .
اضافةتعليق
التعليقات