مجال الانفعالات الإنسانية واسع بـلا حـدود ومتنوع الأشكال، فمنـذ القـرن الماضـي ظهـرت نـظـريـة تقـول إن التناقض القائم بين العواطف والعقل سوف يتضاءل باستمرار، مما سيؤدي إلى فناء المشاعر ليحل مكانها العقل والسلوك الواعي.
إن وجهـة النـظـر هـذه تشعرنا بوجودنا حتى في عصرنا الراهن، حيـث تـدور الآن مناقشات حادة حـول المـسـألـة الـتـي تقـول مـا هـو الـشـيء الأهـم في الحياة، العقل أم العاطفة؟ فحسب رأي البعض يجب ألا تؤثر العواطف والمشاعر في قرننا المتطور الحالي في سلوكنا وتصرفاتنا.
فنحن عقلانيون وعلينا أن نتحكم بأنفسنا وألا نخضع لسيطرة الغضب أو الحـزن أو الابتهاج أو المصيبة. نحـن نملك الوعي، فبإمكاننا أن نخنق في أنفسنا شعور المحبة أو الكره أو الحقد ولكن مهما تخيلنا نظرياً هذا «التدمير الشامل» للمشاعر فإن ذلك من الناحية العملية مستحيل التحقق. إذ إننا غالباً ما نقع في قبضة مشاعرنا، فعن طريق العقل ندرك أن زميلنا في العمل الذي وجه إلينا نقداً حاداً كان محقاً في تصرفه، ومع ذلك فنحن نكـن لـه الحقد والكره أيضاً.
إن مثل هذه المشاعر موجودة لدى كل فرد، وهـي تقيد العقل الواعي، ويمكن أن توجه سلوكنا إلى طريق الضلال، فهناك من يسمح لنفسه في ثورة الغضب العارم بإهانة صاحبه، الذي يتصوره ومن دون حق إنساناً حاقداً، ونرى إنساناً آخر يجهش في هذه الحالة بالبكاء.
إن حياتنا منذ الولادة وحتى الشيخوخة تبقى مليئة بالانفعالات، التي ترافق ما يحدث لنا من وقائع صغيرة أو كبيرة. ومهما فكرنا وحاولنا التصرف بشكل عقلاني ودقيق، وأكدنا الدور الرئيس للوعي في حياتنا، فإن المشاعر ستبقى ملازمة لنا، ولن تسمح للأجيال المتلاحقة بالعيش في هدوء وسكينة، بل ستساهم بصورة فعالة في توجيه سلوكها حسب مشيئتها.
إن وجهة النظر هذه تعتمد على أساس علمي محدد. فقد أظهرت الأبحاث الفيزيائيـة الـتي أجريـت مـؤخراً أن مـخ الحيوانات والإنسان يحـتـوي علـى أسـس تشريحية عضوية للانفعالات تسمى مراكـز اللـذة، ومراكـز «الألم»، حيـث تتوضع هذه المراكز في أماكن شديدة الاقتراب من بعضها البعض، ونورد فيما يلي مقتطفاً من كتاب الفيزيولوجي الأمريكي د. فولدريدج «ميكانيكية المخ» : لقـد أجريت التجربـة الـتـي كـانـت تستهدف دراسـة وظائف منظمـة الـتحكم بالانفعالات النفسية لمنطقة المخ الوسطى، على الجرذان.. وقد ركب الباحث في القفص الـذي حبس فيـه الجـرد ذراعاً يتصل بـدارة كهربائية خارجية، بحيث يستطيع أن يمرر على مخ الجرذ تياراً كهربائياً مهيجاً في كـل مـرة يضغط فيها على الذراع.
بهذا الشكل، فقد كـان حـدوث كل ضربة تهيج متعلقاً بالجرذ نفسه، بواسطة هذه التجربة توصل إلى نتيجة واضحة بجلاء: لقـد قـام الجـرد أثناء حركاته العشوائية عنـدمـا كـان الـذراع مفصولاً عـن الـدارة الكهربائية المغذاة، بالدوس على الذراع من 10 إلى 25 مرة في الساعة، أما عنـد وجـود التيار الكهربائي في الدارة فقد كرر الجرذ عملية الدوس على الذراع بضعة آلاف مـرة في الساعة.
لقد قامت هذه الحيوانات بتهييج نفسها آلاف المرات في الساعة على مدى يوم أو يومين إلى أن أنفقت جميع طاقاتها الجسدية، وأصبحت عاجزة عن تكرار هذا الفعل. وقد حصلت جميع الجماعات، التي كررت مثل هذه الأبحاث علـى القـرود والقطط والكلاب، على نتائج متشابهة. وبينت هذه الدراسات أن الحيوانات تحاول الابتعاد عن جانب التهيج عندما يكون متصلاً بمراكز الألم، لأن هذا التأثير يسبب لها انفعالات مزعجة.
فالقطة البيتية كانت تدفع إلى أي جانب من القفص بعيداً عن مكان التهيج، وتزمجر مرتعبة على مدى كامل الفترة التي جرى أثناء تهييج مراكز الألم، وكانت النتائج مماثلة أيضاً عندما أجريت هذه التجربة على القرود، فقد أدى تهيج مراكز الألم، عنـد هـذه الحيوانات إلى ظهـور انفعالات متفاوتة لـديـه تـدرج مـن الخـوف البسيط حتى الفزع الجنوني، وذلك بشكل يتناسب مع شدة التهيج لقد برهنت هذه الدراسات أيضاً أن منظمات التحكم بالانفعالات النفسية تتوضـع بالقرب من النظم الـتـي تقـود العمليات الفيزيولوجية الباطنية، في الجسم حيث تتولى هذه النظم إثارة الأعضاء الداخليـة وعـدد الإفراز الداخلي والأوعيـة والعضلات الملساء. وهـذا هـو السبب الذي يجعل الانفعالات تترافق دوماً بمظاهر خارجية دالة على محتواهـا؛ فعنـد الشعور بالهلع يمتقـع الإنسان بالصفار وتتوسع حدقتا عينيه، ويتصبب جبينه عرقاً، ويجف لسانه، «ويخور جنانه بين ضلوعه». أما مشاعر الغضب والحزن والسرور فتترافق بردود فعل مختلفة.
تتولـد المـشاعـر دومـاً نتيجة النشاط المشترك لقـشـرة فـصـي المـخ الكبيرين والمراكز العصبية التي تتوضع تحت هذه القشرة. إن قشرة المخ تقوم في الظـروف الطبيعية بتأثير مهـدئ ومعرقـل يـتحكم بعمل المراكز العصبية الواقعة تحتها، ويوجه نشاطها. نحن قادرون على التحكم بمشاعرنا، فبإمكاننا السيطرة على الاضطراب والغضب وتهدئة أنفسنا ساعة المصيبة، إلا أن الوظائف الإدارية لقشرة المخ يمكن أن تختل عند التهيج الشديد أو الإعياء، أو في حالات السكر الشديد، فهنا نطلق العنان لاضطرابنا ونسمح لأنفسنا بفعل أشياء نندم عليها فيما بعد بمرارة.
وتدخل في أساس الانفعالات والمشاعر أيضاً النظم المعقدة لـردود الفعل العاديـة والشرطية، ويعتبر الانفعال عنصراً رئيساً لردود الأفعال الإرادية، أو أوجه السلوك الغريزي. ومع ظهـور ردود الفعل الشرطية تتولد الانفعالات كظواهر انعكاسية مشروطة؛ فعندما نرتعب من كلب شرس يتولد لدينا شعور دائم بالخوف من رؤية الكلاب، ويصبح الفـزع فعلا انعكاسياً شرطياً، أي يظهر عند توفر ظروف محددة؛ أي عند ظهور العامل المهيج.
إذا فمشاعرنا تحيـى طـويلاً، إن المجـال الواسع لتجلـي هـذه المشاعر يسمح بالتحدث عن الجوانب المتعددة وشديدة التنوع لذلك الدور، الذي تؤديه في النشاط النفسي للإنسان، فالانفعالات قادرة على تنشيط طاقاتنا أو إضعافها، وعلى إذكاء الحيوية في نفوسنا، أو إماتتها، وهي بمثابة المعلومات الإضافية المهمة اللازمة للتعرف على الواقع، وفي الوقت نفسه يمكن أن تؤدي دور الغشاوة السميكة، التي تحجب عنا ما يلزمنا من معارف. وسنعمل على توضيح أسباب حاجاتنا للانفعالات والوظائف التي تضطلع بها بشكل أكثر تعمقاً.
إن الانفعالات تعكس حاجات الإنسان التي تعتبر بمثابة القوة المحركة لنشاطه. فالحاجات المادية أو الروحية، تدفع الإنسان لممارسة أوجه النشاط المختلفة: كالبحث عن الغذاء عندما يشعر بحاجته للطعام، والسعي لمعاشرة الآخرين، والقراءة من أجل إشباع حاجته إلى المعرفة. وبالطبع، ليس كل حاجة تترجم لدى الفرد، فالكثير من الرغبات والحاجـات تبقى في حـدود الأمنيـات فـقـط، إمـا لأسباب خارجـة عـن إرادة الإنسان، أو بسبب كسله وتقاعسه، أو لاعتقاده بوجوب خنق مثل هذه الرغبات في نفسه، أو لأنه ببساطة لا يملك الطاقات الكامنة لتحقيـق مـا يحلـم بـه.
فلكي تولد الرغبة أو الحاجة نشاطاً عملياً موجهاً لتحقيقها، يلزم في معظم الأحيان وجـود حلقة إضافية تتمثل بالانفعال النفسي، فهذا الانفعال بالذات هو الذي ينمي الحاجة ويجعل الفرد قادراً على تحقيقها.
إن الانفعال الذي يشمل تصورات عن الأشياء الخارجية المؤثرة وأشكال الحالات الفيزيولوجيـة عنـد الإنسان، يصبح برنامج عمـل وتـأثر. والحاجـة بانعكاسها عبر انفعالات عملية تجعل تصرفات الإنسان وأفعاله قوية ومندفعة. فعند كل حالة أول الأشياء التي نراهـا هـي الأشياء التي تثير اهتمامنا والتي نكون بأمس الحاجة إليها، أما الشيء الذي نتجنبه أو نخشاه فلا نراه.
إن البحوث النفسية تشهد بأن الإنسان في المواقف الحياتية المختلفة، ولا سيما في الحالات الغامضة، يرى أول مـا يـرى الأمور التي تتوافق مع دوافعه، ولـذاك فكـل فـرد يـرى في لطخة السخام مثلاً شيئاً مختلفاً عما يراه الآخر تطابقاً مع اهتماماته. فالجائع يتصور مثل هذا «الشيء» أمـراً شبيهاً بالطعام، والآخر يرى في هذه اللطخة ملامح حيوان معين، وتبدو للثالث الذي يتميز بنزعته العدائية واقعة دامية.. إلخ. وهكذا، فالانفعال: هو بمثابة همزة وصل بين الحاجة والفعل المكرس لتحقيقها، ويمكن للانفعال أن يولد الفعل مباشرة، أو أن يتحول إلى تحفـز متوتر، أو أمل بتحول الأحداث نحو الأفضل، أو بالعكس، أي أن ينقلب إلى أداة كبح وعرقلة للفعل الذي كان ممكن التحقيق.
اضافةتعليق
التعليقات