تمثل الأفكار التلقائية عدة وجوه، كمثل الأزهار والأعشاب في الحديقة. فسجلات الأفكار والتجارب وخطط العمل تشبه أدوات الحديقة التي تمكنك من قص الأعشاب (الأفكار التلقائية السلبية) من أطراف حديقتك، لكي تتيح مجالاً لنمو الأزهار. وستصبح هذه الأدوات من خلال الممارسة مفيدة لك طوال حياتك.
وعندما تنبت الأعشاب من جديد في أطراف الحديقة، فستعرف كيف تستعمل هذه الأدوات. فإننا نجد البعض أنه ما زال هناك أعشاب أكثر من الأزهار، رغم استعمال هذه الأدوات، أو أنه كلما تخلصوا من بعض الأعشاب، نمت بدلها أعشاب أكثر.
وإذا كنت قد حققت مستوى جيداً من استعمال سجل الأفكار، والتجارب، وخطط العمل، ولكنك تريد تحقيق تغير أعمق، فقد يكون الحل بتعلم كيف تقتلع الأعشاب من جذورها.
إن هناك ثلاثة مستويات للقناعات. فالأفكار التلقائية التي كنت تتعامل معها حتى الآن، يسهل الوصول إليها وتمييزها. وتعتبر الأفكار التلقائية هي الجزء المرئي فوق الأرض الأعشاب أو الأزهار. إلا أن لهذه الأفكار التلقائية جذوراً عميقة تحت السطح، وهي ما يسمى بالافتراضات والقناعات الأساسية.
وفي حين تعتبر الأفكار التلقائية كرسائل شفوية نذكرها لأنفسنا، فإن افتراضاتنا ليست بهذا الوضوح، وعلينا في كثير من الأحيان أن نستنتجها من أفعالنا. وإذا وضعنا افتراضاتنا في شكل كلمات، فإنها تأخذ عادة الشكل التالي «إذا كان كذا فإن . . . » وعبارات «إذا حدث...». وكمثال على هذا، كان من افتراضـات مـاريـسـا «إذا تـعـرف الـنـاس عـلي، فإنهم سيرون كـم أنـا حـقـيرة، وسيرفضونني ويجرحونني». وكان من افتراضات فييك «علي أن أكون دوماً الأفضل، وفي كل شيء أعمله». وكان لديه أيضاً الافتراض التالي والذي له علاقة بالأول «إذا لم أعمل الأشياء بشكل كامل، فإن هذا يعني أنني غير كفء». وتعمل الافتراضات كقواعد تتحكم في أفعالنا اليومية وفي توقعاتنا. إن أعمق مستوى للتفكير والمعرفة هو الأفكار والقناعات الأساسية. فهي عبارات مطلقة حول أنفسنا، والآخرين، والعالم. وكان من الأفكار الأساسية عند ماريسا «إنه لا قيمة لي»، و«إنني غير محبوبة»، و«إنني غير كفء». وكان من أفكارها الأساسية عن الآخرين «الناس خطرون»، و«سيحاول الناس دوماً أن يؤذونك»، و«الناس عدوانيون». فكل هذه المعتقدات عبارة عن مسلمات مطلقة غير مبررة، فماريسا لا تفكر مثلاً بالشكل التالي «إذا فشلت، فلا قيمة لي»، أو «إنني أحياناً لا قيمة لي»، وإنما تفكر بطريقة «لا قيمة لي» بشكل مطلق ودون تبرير.
وكما تعلمت كيف تميز وتقيم أفكارك التلقائية، فإنه يمكنك تعلم كيف تميز وتقيم افتراضاتك وقناعاتك الأساسية. ويمكن أن يساعد تعلم كيفية تغير الافتراضات والأفكار الأساسية الخاطئة وغير الصحية، على إنقاص الأفكار التلقائية السلبية أو المحرفة التي يمكن أن تحملها طوال اليوم.
وكذلك يمكن أن يخفف تطوير افتراضات وأفكار أساسية جديدة من انزعاجك، ويسهل عليك تغير سلوكك، بحيث يكون منسجماً مع قناعاتك الجديدة. ومثال ذلك، أن ماريسا كانت لا تتيح للناس فرصة التعرف الحقيقي عليها، لأنها كانت ترى من نفسها أنها حقيرة ولا قيمة لها. ولذلك فقد تصرفت بأسلوب الانسحاب والانطواء لحماية نفسها. ولو طورت ماريسا الفكرة الأساسية الجديدة «إنني أتمكن أن أحب الآخرين»، فإنها ستصبح عندها أكثر رغبة في الاقتراب من الناس. وستكون مع هذه الفكرة الأساسية الجديدة، أكثر استرخاء، وأكثر قدرة على جعل الناس يرون صفاتها الإيجابية الأخرى.
ترى من أين تأتي الافتراضات والأفكار الأساسية؟ إننا في الغالب نحملها من الطفولة، حيث يبدأ الأطفال الصغار بفهم العالم من حولهم، عن طريق تصنيف التجارب التي يمرون بها، وفق نمط مألوف لديهم، حيث يفضل الرضع مثلاً، النظر إلى أشكال دوائر ومثلثات مرتبة بشكل يشبه وجه الإنسان، أكثر من النظر إلى أشكال هندسية قليلة الترتيب، ويبدأ الطفل في السنة الثانية والثالثة من العمر بتطوير اللغة واستعمالها، لينظم ويفهم ما يمر به من تجارب. فهو يكتسب المعرفة بحسب تجربته الخاصة، مثال «الكلاب تعض» أو «الكلاب لطيفة، والتي من شأنها أن تتحكم في سلوكه (ابتعد عن الكلب الذي لا تعرفه). ويتعلم الأطفال كذلك الضوابط والقواعد من الناس الذين من حولهم («الصبيان الكبار لا يبكون»، أو«إن الأفران ساخنة»)، وليس بالضرورة أن تكون الضوابط والقناعات التي يكونها الطفل صحيحة، مثال (كل الصبيان والرجال من كل الأعمار، لا يبكون)، فالطفل الصغير لم يمتلك بعد القدرة العقلية على التفكير بطرق أكثر مرونة.
وتأخذ الضوابط عادة عند الطفل قيمة الأمور المطلقة. فقد تعتقد طفلة في الثالثة من عمرها «إنه من السيئ أن تضرب أو تغضب من أمها، لأنها ضربت أخاها على ظهره، عندما كاد يختنق بلقمة الطعام في فمه. بينما يستطيع الطفل الأكبر أن يرى الفرق بين الضرب للأذى والضرب للمساعدة. إننا نكتسب مع نمونا قواعد وقناعات أكثر مرونة في معظم جوانب حياتنا. فنتعلم مثلاً أن نقترب من الكلب الذي يحرك بذنبه لاعباً، بينما نتجنب الكلب الذي يكون في حالة ثورة. ونتعلم أنه يمكن لنفس العمل أن يكون «سيئاً» أو«حسناً» بحسب الظروف والوقائع.
ومع ذلك، فإن بعض قواعد الطفولة تبقى مطلقات حتى الكبر. وقد تبقى الأفكار والمعتقدات المطلقة ثابتة إذا كانت قد نشأت في ظروف أحداث صادمة، أو إذا استمرت تجارب الحياة الأولى، بحيث تقنعنا باستمرار بصحة هذه القواعد. وعلى سبيل المثال، كانت ماريسا قد تعرضت للإساءة والحط من القيمة في طفولتها، واستنتجت من ذلك بأنها «سيئة». ومع أنه لا يوجد طفل يستحق الإساءة، وأن المسؤول عن سلوك الإساءة هم الكبار وليس الأطفال، إلا أن معظم الأطفال الذين يتعرضون للإساءة، يصلون لنفس الاستنتاج. لماذا هذا يا ترى؟ إن تفسير ماريسا لهذا الأمر بأنها سيئة، واستحقت العقوبة، يبقى أخف وقعاً عليها كطفلة، من أن الكبار الذين في بيتها في غاية السوء وفاقدي السيطرة. ولكي تشعر ببعض الأمان كطفلة، فإنها تحتاج للاعتقاد بأن الكبار طيبون.
كان فييك قد نشأ مع أخ أكبر منه، وكان هذا نجماً في ألعاب القوى، ومن المتفوقين في الدراسة. ومهما كان إنجاز فيك متقدماً وجيداً في مدرسته وفي الرياضة، إلا أنه لم يكن أبدأ كنجاح أخيه. ورغم النجاح الخاص بفييك، فإنه كبر ومعه قناعة أساسية بأنه غير كفء. وكان يبدو هذا المعتقد لفييك على أنه صحيح، لأنه ليس في ذهنه أي إنجاز ذو قيمة، إلا إذا كان هذا الأفضل مطلقاً (أي أفضل من أخيه). وقد تأكد عنده هذا المعتقد أكثر من خلال تجارب حياته، وهو يستمع إلى أبويه وكل معلميه ومدربيه، يصفون له إنجازات أخيه وهم في غاية الفخر. ولأن الأفكار الأساسية تساعدنا على فهم المال من حولنا في هذا العمر المبكر، فإنه قد لا يخطر على بالنا، أن نعيد النظر فيما إذا كانت هذه القناعات هي الأفضل في فهم تجارب حياتنا ككبار. إننا نتصرف ونفكر ونشعر، وكأن هذه المعتقدات صحيحة (100%).
اضافةتعليق
التعليقات