الذات، بئر الخصوصية العميق، وبرجها العالي أيضاً، الصورة التي لا تتطابق، الإشارة التي لا تشير إلا إليها، إلى نفسها، إلى جوهرها تحديداً، الإشارة التي تخرج على نظام الإشارات، التي تخلق بلبلة في التأويل وإرباكاً في الفهم، التي وجودها يتطلب إعادة قراءة النظام الإشاراتي مرة أخرى، إنها تماماً: (لقد وصلت إلي)، ولأنني المعني الأول في قراءة الإشارة ، فإنها تقول بدقة أكثر عمقاً: (أنا وصلت إلي). منافذ في الذات هي الخروج على العقلية الجاهزة، والبحث عن جدران الواقع الإسمنتي، «هناك 360 درجة لماذا نتقيد بواحدة» على حد تجربة المعمارية [زها حديد].
الذات دخول في تحطيم الأصـنـام. سـواء أكـانـت أفـكـاراً أو ممارسات اجـتـمـاعـيـةـ خلع التقديس، والرقص على جليد التابوات، هي التيهان بدءاً التيهان ضرورة ثم الإلتفاف حول مركزها كمغزل، أكتب هذا وأتخيل درويشأ يتخذ من نخاعه الشوكي مركزا للرقص والطواف، بل يصعد الخيال إلى حد أن أتساءل: هل المجرات دراویش تطوف حول نخاعها الشوكي أيضاً في فضاءات لا متناهية؟.
ليس حتماً أن يؤدي الخروج إلى وصول، ذوات قليلة تلك التي تصل، أو تتوهم الوصول، الوصول خدعة. «على حافة الكون ألقي سنارتي في مياه العدم هذه المياه كيف أصطادها لأسماكي؟» كما لو أن الوجود البشري يتجلى في خلق وهم، تبلغ فيه الذات إنوجادها وفناءها.
ينبغي النظر للأفكار على أنها نماذج لمشاريع بشرية داخل صيرورة النشوء والإرتقاء، يمكن أن تكون إجابة مؤقتة، أو تبريراً عقلانياً خاصاً لإشكالية سؤال الكينونة: من أكون؟ ينبغي أن ننتبه إلى نمو السؤال ذاته، إننا نكرر الكلمات ذاتها، لكننا لا نسأل ذات السؤال، السؤال الواحد لا يتكرر، تماماً كالنزول إلى نهر هيراقليطس، ثمة جريان للوقت يجعل السؤال إما طفلاً أو هرماً، هكذا المجهول يتسع، بل يزداد عمقاً وكثافة مع الوقت، مع كل تراكم معرفي أو خبراتي تجريبي فإن المجهول يأخذ هوية أخرى، تجعل سؤال الكينونة مختلفاً أيضاً، السؤال يتجدد دائماً، هكذا، مع الوقت يصبح السؤال ليس هو. وبما أن الفكرة إنموذج لمشروع إنسان، فثمة الكثير من الأفكار قد تحققت عبر الأفراد والشعوب التي تبنتها، بل إن الحضارات البشرية، التي سادت وبادت، هي في الأصل مشاريع بشرية توفرت لها الظروف المناخية والاجتماعية التي جعلتها تنمو وتزدهر، ولعلها بادت حين إنبثقت مشاريع بشرية أخرى أكثر عقلانية، أو أنها امتلكت من مبررات الوجود ما يجعلها تسود بعد أن كانت أدمغة مؤجلة في أحماض الزجاج مثلاً.
وحركة التاريخ البشري التي تبدو منقادة لمؤثرات اقتصادية، جنسية، سياسية أو ثقافية، هي في النهاية حركة تخضع أحياناً لمبررات غير عقلانية تماماً، فيمكن أن يعقب التقدم والانفتاح تراجع وإنخساف داخل بنية المفاهيم، هكذا، فكما تنهار المجرة إلى ثقب أسود يلتهم الضوء كله، كذلك تنهار الأمة إلى عائلة تفرض قراءتها على الكل، فالحياة لعبة تتحكم بها النماذج المطروحة على صعيد الواقع، وكلما كان البناء الثقافي للمجتمع قائماً ومتأسساً على خرافة كلما كان أفراده أسرع في الركض خلف تجارب مسطحة أو فقاعية.
وكثقافة عربية فإن تاريخنا يحفل كثيراً بنموذج (عيينة بن حصن) أو «الأحمق المطاع» بحسب تعبير محمد بن عبد الله. رؤية سريعة للتاريخ البشري تجعلنا نعتقد أنه محض ركض خلف فقاعات وهمية، دون أن نغفل لحظات التوهج التي حاولت وتحاول انتشال الإنسان إلى فضاءات أخرى. لكن ما الذي يجعل الذات أكثر قدرة على التحقق؟ ما الذي يخرجها من القوة إلى الفعل؟ ما الذي يجعلها تنزل إلى الشارع اليومي؟ تمشي في الأسواق، تتحسّس خروج الضجيج البشري على المعنى، وما المعنى؟
اضافةتعليق
التعليقات