نحن نعيش في زمن قد تطوّرت فيه التكنلوجيا، فإن الأجهزة الحديثة متوفرة ووسائل الراحة كثيرة، هذا أمر رائع ! إلا أنه في الحين نفسه ازدادت المضرّات ملاحقة لها كذيلها، فتلوّث الهواء من جرّاء دخان السيارات، والضوضاء المزعج الناجم من الإزدحام المروري، وأشعة وذبذبات الكمبيوترات والهواتف النقالة، و ما نأكله من أكلات غير سليمة.. فكل هذه الأمور تؤثر سلباً على “الجسم والروح” وعلى قدرة تحمّل الإنسان، إذ تضغط على أعصابه فتراه يغضب لأتفه الأسباب.
ما هو الغضب؟
تؤكّد الاختصاصية في علم النفس العيادي، الأستاذة نسرين نصر، أنّ الغضب حالة نفسية طبيعية جدّاً، وردّ فعل صحية، تتولّد عند الإنسان نتيجة تحسّسه لخطر ما يحدق به. بدايةً، يشعر الإنسان بالتوتّر جرّاء هذا الخطر الّذي يشكّل تهديداً لقيمه أو مبادئه أو على نرجسيّته، وقد يكون الخطر مادّيّاً أو معنويّاً، وهذا ما يسمّى بحالة الغضب.
لكن كيف نتخلص منه؟ سؤال قد يشغل تفكير الكثيرين منّا بل وقد يقولون هكذا نحن وهكذا هي شخصيتنا.
وهنا نسلّط الضوء على قصة قصيرة تنموية:
“ كان هناك فتى عصبي المزاج وكان يفقد صوابه بشكل مستمر فأحضر له والده كيساً مملوءاً بالمسامير وقال له: يا بني أريدك أن تدق مسماراً في سياج حديقتنا الخشبي كلما اجتاحتك موجة غضب وفقدت أعصابك، وهكذا بدأ الفتى بتنفيذ نصيحة والده..
فدق في اليوم الأول 37 مسماراً، ولكن إدخال المسمار في السياج لم يكن سهلاً.
فبدأ يحاول تمالك نفسه عند الغضب، وبعدها وبعد مرور أيام كان يدق مسامير أقل، وفي أسابيع تمكن من ضبط نفسه، وتوقف عن الغضب وعن دق المسامير، فجاء والده وأخبره بإنجازه ففرح الأب بهذا التحول، وقال له: ولكن عليك الآن يا بني استخراج مسمار لكل يوم يمر عليك لم تغضب فيه.
وبدأ الفتى من جديد بخلع المسامير في اليوم الذي لا يغضب فيه حتى انتهى من المسامير في السياج.
فجاء إلى والده وأخبره بإنجازه مرة أخرى، فأخذه والده إلى السياج وقال له يا بني أحسنت صنعاً، ولكن انظر الآن إلى تلك الثقوب في السياج.. هذا السياج لن يكون كما كان أبداً!.
وأضاف: عندما تقول أشياء في حالة الغضب فإنها تترك آثاراً مثل هذه الثقوب في نفوس الآخرين“.
نعم، فالغضب ليست فقط حالة عابرة للإنسان وتنتهي.. بل أثارها ونتاجاتها تبقى مدى السنين في قلوب الآخرين، وقد يؤدي أحياناً الى عاقبة وخيمة لا نحمد عقباه، “فلا تجعله يلتهمك!“.
قال تعالى: “وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ“. 1
عن الإمام عليّ (عليه السلام): "سوء الخلق يوحش القريب، وينفِّر البعيد” 2.
وعنه (عليه السلام): "من ساء خلقه ضاق رزقه” 3.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): "إنّ سوء الخلق لَيُفسِد العمل كما يُفسد الخلّ العسل” 4.
فهل يحب أحدنا أن يهدم حسناته الذي تعب لكسبها أو يضيق رزقه أو ينفر منه أحبائه بسوء خلقه؟؟. فإذا الخلق السيء هكذا منبوذ في ديننا المحمدي فكيف الحال بالغضب؟! وهو من أشدّ أنواع سوء الخلق.
و روي أنه جاءَ رجُلٌ إلى رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن بَينِ يَديهِ فقالَ: “يا رسولَ اللهِ، ما الدِّينُ؟ فقالَ: حُسنُ الخُلقِ. ثُمَّ أتاهُ عن يَمينِهِ فقالَ: ما الدِّينُ؟ فقالَ: حُسنُ الخُلقِ. ثُمَّ أتاهُ مِن قِبَلِ شِمالِهِ فقالَ: ما الدِّينُ؟ فقالَ: حُسنُ الخُلقِ. ثُمَّ أتاهُ مِن وَرائهِ فقالَ: ما الدِّينُ؟ فالْتَفَتَ إلَيهِ وقالَ: أمَا تَفْقَهُ؟! الدِّينُ هُو أنْ لا تَغْضَبَ “ 5 .
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): “من لم يملك غضبه، لم يملك عقله “ 6.
صحيح؛ نحن لسنا في زمن الماضي، فمع قلة وسائل الراحة التي كانت لديهم إلّا أنّهم كانوا أشدّ صبراً وحلماً، إذ لم يكن لديهم مايشوّش عليهم ويشلّ من حركة أعصابهم، فالتّطور كان زهيدا ولكن في نفس الوقت المضرّات أيضاً كانت زهيدة.
إذاً من يعيش في بيئة سليمة ونقيّة هل هو كمن يعيش في بيئة ملوّثة ومشحونة؟
بالطبع الفرق كثير، لكن هذا الآن واقعنا.. وما باليد حيلة.
ولكن، هل “الغضب” منبوذ في كلّ مواطنه وحالاته ؟؟
الغضب محمود و إيجابي في موطن واحد فقط، وهو الغضب لله ولدين الله، فالمعصومين (عليهم السلام) كانوا يغضبون في أكثر من موطن، وذلك مثلاً حين يشهدون تجاوزاً لشريعة الله، أو تعدّياً على كرامة أحدٍ، أو تجسُّساً على أحدٍ، وما شابه ذلك من الموبقات الدينيّة، والمفاسد الإجتماعيّة.
يحدِّثنا الله تبارك وتعالى عن كليمه النبي موسى (عليه السلام) فيقول: “وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ…” 7 . وقال تعالى: “وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ “ 8.
ويقول (علماء الطب): “أن السبب الرئيسي لكثير من الأمراض المزمنة كالسكر والضغط وأمراض القلب هو الغضب “.
فما هو الحل؟؟
١- الصمت، عندما تغضب حاول أن لا تتكلم و الزم الصمت الى أن تهدأ فتجمع قوى عقلك وتتحدث بعدها بعقلانية أكثر. عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "داووا الغضب بالصمت والشهوة بالعقل” 9.
٢- الإسترخاء التام، وذلك بأن نسترخي لعدّة مرّات في اليوم، أي بعد كلّ عمل شاقٍّ نأدّيه نأخذ إستراحة قصيرة لدقائق معدودة في مكانٍ هادئ لا يوجد فيه أحد؛ نصفّي فيه الذّهن من أيّ تفكير سلبيّ، نسترخي استرخاء تام ونفكّر بلا شيء..
٣- شرب الماء، عبر شرب الكمية المناسبة من السّوائل، لأن إحدى الأسباب التي تخرج الإنسان عن طوره ولا يقدر على ضبط أعصابه هي شدة جفاف جسمه من السوائل لفترات طويلة.
٤- الإيحاء الذاتي، وهو بأن يلقّن الإنسان نفسه بأنه حليم وصبور وهادئ وخلوق، فله كلُّ الأثر في ذاته ونفسه. وأيضاً ليتظاهر ويتصنّع بأنه حليم، فبمرور الوقت تترسخ صفة الحلم في نفسه. عن أميرالمؤمنين علي (عليه السلام): “إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ “ 10.
٥-تغيير الحالة أو الاضطجاع، فلو استحوذ الغضب على الإنسان ليغيّر من حالته؛ أي إن كان واقفاً ليقعد والعكس صحيح. كما قال الإمام الباقر (عليه السلام): “أيما رجل غضب وهو قائم فليجلس، فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان، وإن كان جالساً فليقم ” 11. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): “إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع” 12.
٦- غادر المكان، بأن تذهب خارجاً وتمشي وتأخذ نفساً عميقاً لعدة مرات .
٧- تذكر “ثواب” من يكظم غيظه، قال تعالى:
“وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ “ 13.
٨-الوضوء، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : “ إن الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان خلق من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ “ 14 .
و روي “أنّ واحدة من إماء الإمام السجاد (عليه السلام) قامت بصب الماء على يديه ليسبغ الوضوء للصلاة، ولكن فجأة سقط الإبريق من يديها فشج وجه الإمام.
فنظر إليها الإمام (عليه السلام) وهو جالس.
فقالت: (والكاظمين الغيظ).
قال (عليه السلام): كظمت غيظي.
قالت: (والعافين عن الناس).
قال (عليه السلام): عفوت عنك.
قالت: (والله يحب المحسنين).
قال (عليه السلام) فاذهبي فأنت حرة لوجه الله، وكان الدم يتقاطر من وجه الإمام (عليه السلام) “ 15.
نعم هذه هي مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)..
فالأخلاق هي أساس ديننا، وهي التي تجذب الطوائف الأخر وتحببنا لهم.
وكما نقل في أحوال المرجع الراحل أية الله العظمى السيد محمد الشيرازي (قدس سره الشريف) عن حرم السيد (حفظها الله) في لقاء كان لها مع بشرى حياة:
رغم وجود المشاكل الكثيرة جداً والأعمال والمسؤوليات المتزايدة بالنسبة لقائد جماهيري، والهموم المتراكمة التي تثقل كاهله من جراء الإحباطات الكثيرة التي تلحق بالعالم الإسلامي، وفي أشد اللحظات، وأقسى الظروف الأمر الذي كثيراً ما يعرض لقائد إسلامي لم يتغير سلوكه أدنى تغيير مع أفراد أسرته، ولم تلحظ أية إمارة لعدم الارتياح أو الأسى في وجهه المبارك... أخلاقه الحسنة والمرضية لسماحته داخل أسرته تفوق الوصف؛ فحسن البشر، وحسن التصرف، والتسامي الأخلاقي، وحلاوة الحديث، كانت طريقته الثابتة والدائمة في التصرف مع أهل بيته..
وكان في مقدمة وصاياه (قدس سره) على الدوام، التسامح، وسعة الصدر، وحسن الخلق، وكان يعمل بجميع ما يقوله، وفي كل كلمة كان يقولها يسوق موعظة وحكمة ويعلمنا جميع ما يتعلق بدروسنا، بصبر وأناة، دون أن يتصرف تصرفاً خارج المألوف، أو يرفع صوته بوجه أحد.
كان يتحلى بسعة صدر فريدة، فإذا ما لاحظ تقصيراً أو اختلالاً في أي من الأعمال لا يبدي غضباً أو انزعاجاً، أو أية إمارة تدل على أنه غضبان أو غير مرتاح؛ فكان (قدس سره) يعمل بعفو وصفح أجداده الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام).
كان يرتسم على وجهه المبارك وقار وهدوء ملفت، ولم تفارقه الابتسامة قط، إنه مصداق واقعي ومظهر بارز للآية الكريمة: “وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ “ 16.
قال الشاعر:
وفي الحلم ردعٌ للسفيه عن الأذى *** وفي الخَرق إغراء فلا تك أخرقا
فتـندمَ إذا لا ينفـَعَنْـكَ ندامـةٌ *** كما ندم المغبون لما تـفـرّقـا..
اضافةتعليق
التعليقات