مما يساعد على سعادة الزوجين لا سيَّما في حال الضيق المادي هو حسن التدبير والتقدير في المعيشة والذي ينبغي للمرأة أن تكون المساهم الأول فيه، فلو استقام أمر المعيشة، فإنّ كثيراً من سوء التدبير أكثر مما هي بسبب قلة المدخول المادي، وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق (عليه السَّلام) بقوله: " ... الرفق في تقدير المعيشة خير من السعة في المال".
وبما أنّ هدف الإسلام من توجيهاته هو سعادة الإنسان، وبما أنّ حسن التدبير جالب لهذه السعادة، ربطت روايات أهل العصمة الإيمان بحسن تقدير المعيشة، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "من علامات المؤمن ثلاث: حسن التقدير في المعيشة، والصبر على النائبة، والتفقه في الدين".
ومن أجمل ما قيل في تقدير المعيشة ما ورد في وصية الإمام زين العابدين (عليه السلام) لولده الإمام الباقر (عليه السلام): "اعلم يا بني: أن صلاح الدنيا بحذافيرها في كلمتين: إصلاح شأن المعايش ملء مكيال، ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل ... ".
مبادئ تقدير المعيشة
حتى يستقيم أمر المعيشة ينبغي مراعاة المبادئ التالية:
١ - مبدأ عقائدي: الإيمان بحقيقة الرزق
أكَّد الإسلام قرآناً ونصوصاً عن أهل العصمة (عليهم السلام) أن تقدير الرزق هو بيد الله تعالى فقال عز وجل: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُط الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقْدِر إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ، خَبِيْرا بَصِيرًا﴾.
- ﴿قُلْ إِنَّ رَبي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكَّثرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بِعضٍ فِي الرِّزْقِ، فَمَا أَلَّذيِنَ فُضِّلوُاْ بِّرادي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحدُونَ﴾.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "وقدّر الأرزاق فكثَّرها وقلَّلها، وقسَّمها على الضيق والسّعة، فعدل فيها؛ ليبتلي من أراد بميسورها ومعسورها، وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيّها وفقيرها".
وعنه (عليه السلام): "عياله الخلق، ضَمن أرزاقهم، وقدَّر أقواتهم".
قصة نملة سليمان
ومن لطيف ما ورد في قصص نبي الله سليمان (عليَه السلام) أنه رأى ذات يوم نملة أتت إلى شاطئ البحر، فإذا بسلحفاة بحرية خرجت من البحر وفتحت فمها، فدخلت فيه النملة، فأطبقته السلحفاة، ودخلت البحر، ونبيُّ الله سليمان عليه السلام ينظر متعجباً مما رأى. بعد مدة رجعت السلحفاة لتخرج النملة إلى الشاطئ، فإذا بنبي الله ُعليه السَّلام يسأل النملة عن تفسير ما رأى، فأخبرته بأنّ الله تعالى خلق دودة عمياء تحت صخرة صمَّاء في اللجة الظلماء، وأمرني أن آخذ لها رزقها.
شروط ضمان الرزق
إلا أنّ ضمان الرزق هذا ليس مطلقاً، بل هو للساعي والطالب، فعن الإمام علي عليه السلام: "اطلبوا الرزق؛ فإنه مضمون لطالبه".
وهذا ما يُفسّر الدعوة إلى طلب الرزق مع ضمانه بدون تناف بينهما، فعن الإمام الصادق عليه السلام: ((لا تدع طلب الرزق من حله؛ فإنه عون لك على دينك، وأعقل راحلتك، وتوكّل)).
من هو المرزوق؟
يُفهم من التتبع والتأمل في النصوص الدينية المباركة أنّ المرزوق لا يعني كثير المال بل هو الذي يستفيد مما منحه الله تعالى، فبمقدار ما يستفيد منه يكون مرزوقا، فقد يكون إنسان قليل المال مرزوقاً أكثر من إنسان بالغ الثراء.
وعليه إذا سعى الزوج سعيه وجدَّ فيه، لكنه لم يكن كثير الرزق، فعلى زوجته أن تصبر، وتكون خير معينة له، وإن شَّظَف العيش وخَشنَ.
ومن لطيف القصص المعبِّرة عن هذا المعنى ما حكاه البعض عن قصة رجل إيراني كان قد اعتاد على سرقة أصدقائه فقط، بحيث لم يكن يتجرأ على دخول منزل لم يعهده سابقاً.
وذات مرة دخل هذا الرجل ليسرق منزل صديقه، فتفاجأ في صرخة زوجته التي كانت حاملاً في شهرها الأخير، فاستيقظ زوجها وجاء جيرانهما، مما دفع السارق إلى الاختباء في مكان دافئ أدَّى إلى نومه فيه حيث شاهد مناماً يتعلق بزوجة صديقه التي رآها في ذلك المنام على وشك الولادة، فإذا بملك يخاطب جنينها قبل أن ينزل من رحمها، حيث كان يقول له: انزل، فيرفض الجنين ذلك، فسأله الملك: لماذا ترفض النزول؟ فأجاب الجنين: لا أنزل إلا بعد أن أعرف كم قدَّر الله لي من الرزق كل يوم، فأجابه الملك: ربع تومان، فقال الجنين: لا أنزل، فقال له الملك: نصف تومان، فردَّ الجنين: لا أنزل، فقال الملك: تومان كامل، فردَّ الجنين: لا أنزل، فأخذ الملك يزيد من القيمة إلى أن وصل إلى خمسة تومانات، فرفض الجنين، فإذا بالملك ينزله قهراً عنه.
وإذا - وبعد ولادة الطفل - في رحم تلك المرأة جنين آخر تكرَّر معه الحوار، حينما رفض النزول من رحم أمه
الملك: انزل أيها الجنين.
الجنين: لا أنزل.
الملك: لماذا؟
الجنين: أريد أن أعرف كم قدَّر الله لي من الرزق في كلّ يوم كما عرف أخي ذلك.
الملك: ربع تومان.
الجنين: لا أنزل.
الملك: نصف تومان.
الجنين: لا أنزل. فإذا بالملك ينزله قهراً عنه.
استيقظ الرجل، واستطاع أن يخرج من منزل صديقه، دون أن يراه أحد.
تأثر الرجل بما جرى معه في تلك الليلة، فقرَّر أن يغادر تلك المدينة نهائياً تائباً من السرقة.
وبعد مضي سنوات طويلة على هجرته من تلك المدينة، قرّر الرجوع إليها. وعند مدخل باب صديقه العتيد رأى تلك المرأة التي أفزعته صرختها في تلك الليلة. سألها عن زوجها، فأخبرته بوفاته وأنه ترك ولدين ذكرين توأمَيْن.
عندها تذكر ذلك المنام الغريب، فسألها عنهما. فأجابته أنّ أحدهما رجل أعمال كبير في المدينة، والآخر بائع خضار، حالته المادية محدودة.
استفزَّه كلامها الذي قرَنّه بالمنام رابطاً بينه وبين التومانات الخمسة وربع التومان، فلعل الأولى كناية عن الغنى، والثانية كناية عن الفقر. وقرَّر التأكد من الأمر بنفسه.
زار أولاً بائع الخضار الذي رحّب به كثيراً عندما عرف أنه صديق والده، ودعاه إلى مأدبة عشاء في منزله. وبعد العشاء سمع الرجل صاحب الدار يتحدَّث مع امرأته في مقدار رزقه اليومي، فتبيَّن أنه خمسة تومانات !!!
ثم زار ثانياً رجل الأعمال الذي فعل كأخيه في دعوته إلى مأدبة عشاء لبَّاها الرجل ليجدها تختلف عن مأدبة أخيه. فهي مأدبة واسعة فيها ما تشتهي النفس من ملذَّات. لكن الغريب أنّ صاحب الدار لم يجلس مع صديق والده على المأدبة، فظنَّ الرجل أنَّه يتكبَّر عليه، فرفض أن يأكل وحده، إلا أنّ صاحب الدار أصرّ على عدم المشاركة داعياً صديق والده أن يتفهّم موقفه بشكل غير سلبي، إلا أنَّ ذلك لم يُقنع الرجل الذي اعتبر موقف صاحب الدار إهانة له.
عندها قال له ابن صديقه: ((سأطلعك على سرّ ذلك))، فدعا خادمه طالباً منه أن يأتي إليه بطعامه الخاص، فإذا بالخادم يأتي بماء ساخن فيه عدد من سلاطعين البحر معلّقا على هذا المشهد المؤثر: ((إني مريض بمرضٍ منعني الطبيب بسببه من تناول كل هذه الأطعمة سوى ماء السلاطعين)).
هنا استعاد الرجل منامه ليعرف أنّ صاحب ربع التومان هو هذا، وأخوه بائع الخضار هو صاحب التومانات الخمسة؛ لأنّ الرزق هو بمقدار الاستفادة من المال، لا بمقدار كثرته.
اضافةتعليق
التعليقات