في عام ٢٠٢٣ أجاز مجمع اللغة العربية في القاهرة استخدام كلمة "ترند"، وأضيفت الكلمة إلى المعجم الوسيط، كان قراراً أثار حفيظة جميع المهتمين باللغة العربية لأنها كلمة ذات نظير عربي مستخدم فعلاً في مواقع التواصل الاجتماعي وهو رائج أو متداول، وليست اللغة العربية عاجزة عن استخدام مفرداتها أو تعريب أخرى لتسمية ما يستجد في الحياة اليومية المعاصرة.
تعتمد وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أساسي على ما هو الرائج في ربط المستخدمين من ثقافات مختلفة، ويعتبر المحتوى الرائج محتوى محظوظ بالوصول إلى عدد كبير من المشاهدين نامياً بشكل فيروسي غير قابل للسيطرة، مما يعني إمكانية جذب الانتباه للمدون الرقمي أو النشاط التجاري، وهو ما يعني أرباحاً عظيمة للأفراد والمنصات أنفسها.
ونحن هنا لا نميز بين viral content و trends لاستخدام كلمة trend بسياق أعم وأشمل، مع وجود اختلافات جوهرية في أصل الكلمتين ومظاهر استخدامهما في مجال صناعة المحتوى.
بدأ الأمر برواج مقاطع أو صور مضحكة أو غريبة مثل صورة الفستان ذو اللونين وحساب البيضة الشهيرة على إنستغرام، أو تحديات مثل تحدي دلو الثلج، وكم كان حينها الإنترنت عالماً هادئاً ورائعاً، ولكنها كانت تجارب اجتماعية أولية تمهيداً لتغيير طريقة تفكير أجيال ناشئة كاملة.
يبدأ الأمر بمقطع ما أو فكرة ما، سرعان ما تأخذ طريقها إلى الجميع تحت ضغط الأقران، وتصبح محور حديث كل فرد، لكن خطورتها لا تكمن في كونها رائجة لأن بعض الأفكار الرائجة جيدة في أصلها، بل في كونها قادرة على تحريك العالم دون تفكير، وأنها جعلت حتى أهم الأفكار والأعمال والفنون والآداب موضوعاً رائجاً يصل إلى قمة الشهرة في الثقافة الشعبية في يوم ثم يندثر في اليوم الذي يليه، وهذا يقتل كل الرموز والأفكار والقضايا والفنون والعلوم وكل ما هو ذو قيمة ويجعل لها صلاحية تنتهي بنهاية رواجها، مما يخلق جيلاً لا يعرف بوصلته، لا يستطيع الدفاع عن قيمه لأنه لا يعرفها أساساً بل قد يهينها لجعلها رائجة ظاناً أنه أحسن صنعاً، وهو جيل لن يمتلك نفساً طويلاً للدفاع عن أحلامه الخاصة فضلاً عن عقيدته، بل هو لن يحلم أساساً، ليس لديه وقت، فهو منشغل بمتابعة الرائج.
ولا تتوقف خطورة الرائج عند هذا الحد، بل إنها تدفع الشباب إلى الانفصال عن الواقع مطاردين المحتوى الرائج والأفكار الرائجة استهلاكاً وصناعة، يفعلون كل ما بيدهم لتقديم محتوى رائج وإن كان غير لائق أو يحط من القدر أو مضر لهم أو للآخرين تحت مسمى تحدي أو مزاح، مما يسلب منهم أهم الصفات الإنسانية كالكرامة والتعاطف.
والمثير للانتباه إن بداية كل عام تطلق الصحف الاقتصادية العالمية المواضيع والتوجهات التي ستكون رائجة في مجال الأعمال واهتمامات الأفراد والشركات والمجتمعات الرقمية والمحلية، وهي ليست توقعات محضة بل إنها تبرز قدرة المؤسسات العالمية الكبرى والحكومات في صياغة عالمنا وتوجيهنا باتجاه معين بقصد الإلهاء أو خدمةً لمصالح اقتصادية معينة، بتواطئ من منصات التواصل الاجتماعي كيوتيوب، إنستغرام، تويتر، تيك توك، وغيرهم.
وكان التضامن مع فلسطين هو أيضاً أحد المواضيع الرائجة التي سرعان ما خبت وشعر الناس بالملل بعد أن استهلكوها، لأنهم لم يتضامنوا بداية منطلقين من اعتقاد أو تأمل في الصورة الكاملة، وبدأ الأمر يطال رموزاً ثقافية ودينية بل حتى العبادات أصبحت مواضيع رائجة، مثل أداء العمرة، فترى الناس يذهبون لأداء المناسك لتصوير مقطع أو التقاط صورة أو القيام بتحدي ما، ولا تؤثر هذه العبادة في سلوكهم أو حالتهم الشعورية.
إن الهجمة الكبيرة على الأمة الإسلامية معروفة لدى العارفين والناكرين في العالم أجمع، وإن تفكيك آخر مصادر القوة والتقويم لدى الإنسان وهو إيمانه هدف يصبح أقرب مع التيارات الرائجة، فيمكنك سلب المعنى من كل شيء بجعله رائجاً، وهذا لا يستهان به، وما نحتاج إليه اليوم ليس هجر وسائل التواصل الاجتماعي بل استخدام قوتها في جعل قضايانا مستمرة في الظهور لوقت أطول، وصناعة المحتوى الجاذب برسائل تهم المجتمع وتدعم أسسه، فحمل ميدالية الكعبة لا يعني شيئاً لكن فهم الدين العظيم الذي قبلته الكعبة يستحق أن يُتمعن فيه لأنه هو ما يصنع الإنسان.
اضافةتعليق
التعليقات