الشخصية المزدوجة هي وليدة التناقض بين مشاعر الشخص وسلوكه، لأن المشاعر بطبيعتها حرة طليقة لا يسدها شيء ولايمكن تقييدها، بينما السلوك من الممكن ضبطه وتقييده بالعادات والنظم الإجتماعية.
وبعد العولمة الحاصلة والتطور التكنولوجي الذي احتل مكاناً واسعاً من حياة كل إنسان، وشغل باله وفكرة ووقته، نشاهد بأن الكثير من الناس خلقوا لأنفسهم عالماً خاصاً في الشبكة العنكبوتية...
بعضهم يلجأ الى تلك المواقع الوهمية بحجة الهروب من الواقع المرير الذي يعيشه الوطن العربي، وبالأخص العراق، والبعض الآخر يعاني من الفراغ فيحاول سد ذلك النقص باللجوء الى الوهم!.
هنالك صنف من الناس يعانون من الخجل، الإرباك، عدم اللباقة، وصفات أخرى جميعها تجتمع في دائرة ضعف الشخصية. فوجدوا من مواقع التواصل الإجتماعي ملجئاً ينقذهم من ضعف الشخصية التي يعانوها، فبات الإنترنيت هو المصنع الأول لخلق الشخصيات الوهمية.
فترى الكثير من الناس خلف الشاشات يتكلمون معك بإسلوب حواري جذاب، وبلباقة عالية، كما ان البعض يمتاز بقوة الشخصية والجرأة، وما ان تأتي الى واقعهم حتى تنصدم بالشخصية المعاكسة تماماً، عما كانوا عليه في مواقع التواصل الإجتماعي، لربما تجدهم خجولين... او لا يملكون اسلوب مقنع في الكلام، ولا حتى إمكانية لإدراة حوار معين، وآفاق افكارهم تتحدد بمنظومة ضيقة جداً.
وفي هذا الإطار قامت بشرى حياة بأخذ آراء متعددة من أشخاص يملكون حساب على الفيسبوك، فقالت الأخت بنين:
" في الحقيقة انا إنسانة خجولة، وأخاف جداً من مواجهة الناس في العلن، ولا أملك الجرأة في ان اضع عيني بعين أحد، ولكني وجدت الفيسبوك وباقي مواقع التواصل الإجتماعي المكان الذي افرغ به شحناتي السلبية، واتكلم براحة وحرية تامة، دون اي قيود فكرية او خوف، لان لا احد يستطيع مراقبة حركاتي، او ينظر في عيني او حتى يركز في نطق حروفي".
امّا رأي الأخ جواد كان:
"انا إنسان واقعي جداً، ونادراً ما استخدم مواقع التواصل الإجتماعي لغرض التعرف على الأصدقاء، لأني أفضل الواقع على الوهم، وأغلب الشخصيات المتواجدة على الفيسبوك وباقي مواقع التواصل الاجتماعي هي شخصيات وهمية، فمن يرغب بفرد عضلاته الفكرية ولسانه اللبق فأهلا وسهلا به في الواقع، لأني عندما اتكلم مع شخص، احتاج ان اراقب حركاته، وأقرأ لغة جسده، لأن من الممكن أن يطبع الشخص على الكيبورد كلمات لا يعنيها، ولأنه ليس قريب مني لا استطيع ان انظر الى عينيه لأفهم معنى كلامه وبهذه الحالة من الممكن ان نتعرض الى سوء فهم).
اما الأخ محمد فقال:
"اتكلم مع الناس بطريقة عفوية جداً، ولا أظن شخصيتي على ارض الواقع تختلف كثيراً عن شخصيتي خلف الشاشة، ولكني احاول ان اتحاشى التعارفات العميقة على الفيسبوك والمواقع الاخرى لأنi في احدى المرات أخبرني صديقي بأنه إنعجب بإسلوب شخص تعرف عليه عن طريق الفيسبوك، وجده إنسانا واعياً ومثقفاً، يحمل بين طيات حروفه رؤى وأفكار عميقة، ولكن عندما التقى به على أرض الواقع، وجده إنسان متناقض تماماً عما كان عليه، ولا يمتلك أي مرونة في جذب أطراف الحديث!، إنصدم به بعد اللقاء وأقسم على نفسه بأن لا يتعرف على اي شخص في الفيسبوك مرة أخرى!.".
العامل الأساسي الذي يجعل الإنسان ذو شخصيتين مختلفتين هو عامل الخوف، الذي يصنع حاجزاً عملاقاً بين الفرد والجمهور. يمنعه من ابداء رأيه والتعامل معهم بكامل الحرية والجرأة،
كما ان ضعف الشخصية تلعب دوراً مهماً في الشخصية المزدوجة، ويذكر سيد "هادي المدرسي" في كتابه التنموي "كيف تكسب قوة الشخصية" بأن "الجوهر في قوة الشخصية، أن تكون نفسك دائماً في أفضل حالاتها، ولذلك فإن أكثر الناس تأثيراً لا يغيّرون شخصيتهم بين ظرف وآخر. إنهم هم ذاتهم، لا فرق إذا كانوا في محادثة حميمة، أو يخطبون في مناسبة، أو يجرون مقابلة طلباً لوظيفة.
إنهم يتصلون بالعالم بكامل ذواتهم، قلباً وقالباً، وتكون نبرة أصواتهم وإيماءات أيديهم متناسقة تماماً مع كلامهم وما يدور في خاطرهم.
فالشخص الذي يبرز بين الجمهور يبرهن أنه يملك مجموعته الخاصة من القيم، وحساً قوياً باحترام الذات. وفيما رياح الأفكار المتصارعة تعصف ببعض الناس، وتيارات مختلف البدع تجرف البعض الآخر، يظل هو راسخ القدم، وهذا هو الجزء الأكبر من مقومات الشخصية.
ويقول أمير الكلام، علي بن ابي طالب (عليه السلام) "المرء حيث اختار لنفسه إن صانها ارتفعت، وان ابتذلها اتضعت" (غرر الحكم ودرر الكلم)".
وهنالك بعض الخطوات التي تعزز مفهوم الثقة بالنفس لتجنب ظهور الشخصية المزدوجة في الإنسان:
1- كن كما أنت، وإصنع لنفسك شخصية مميزة تختلف عن الآخرين، وابتعد كل البعد عن فكرة التصنع، لأن التقليد او تصنع الشخصيات ستقلل من قيمتك المعنوية، وتفقد عطرك الخاص.
2- حاول أن يكون لك دور مهم في المجتمع، وحدد مكانتك في الحياة ودورك في هذا العالم، ثم اسعَ من اجل تحقيق اهدافك الموضوعة.
3- إحترم نفسك كي يحترمك الآخرون، وإصنع من نفسك شخصية قوية ومحترمة في المجتمع.
4- لا تهدر كامل وقتك وإهتمامك في المواقع الألكترونية، بل عزز روابطك الأسرية وعلاقاتك الإجتماعية، وضع جدولاً للقاء الأحبة والأصدقاء.
5- تعلم فن المحادثة مع الناس، واتقن اسلوب الحوار، وتدرب عليه مع نفسك امام المرآة لأن المحادثة الجيدة بحاجة الى اللباقة، ففي النهاية القدرة على كسب الآخرين وإقناعهم أمر مهم جداً.
6- شارك في الدورات التنموية، واقرأ الكتب التي تعزز الثقة بالنفس، والتي تساعد في بناء الشخصية القوية.
فالإنسان من الضروري أن يتصالح مع نفسه، ويعالج نقاط ضعفه، ويتحلى بقوة الشخصية والمبادرة الواقعية، بعيداً عن الوهم، لأن العالم الألكتروني سينتهي بمجرد أن تغلق هاتفك او تطفىء حاسوبك المحمول، وستعود أدراجك الى الواقع، بعيداً عن الإٍسم المستعار واللايكات... في الأخير سينتهي بك المطاف أمام المرآة تنظر الى وجهك وينظر كل من حولك اليك.
اضافةتعليق
التعليقات