جاءت البشارة من سيناء، واشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبال فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم.
وأتى أمر الإله طوفوا بمحمد الشرق والغرب، واعرضوه على روحاني الجن والانس والطير والسباع، أعطاه صفاء دم، ورقة نوح، وخلة إبراهيم، ولسان إسماعيل، وكمال يوسف، وبشرى يعقوب، وصوت داوود، وزهد يحيى، وكرم عيسى، وولد مختوما، اخضرت به الأرض واينعت الثمار، اخمدت النيران، وتفجرت الينابيع، كانت ولادته إيذانا بزوال الظلم.
في ظل كل تلك المعجزات لابد من الخوض في معترك الدراسات الاستشراقية التي تناولت متفرقات حياته، لا سيما تلك التي تناولت سيرته العطرة بالدراسة والنقد والتحليل، والوقوف على أساليبهم في تناول القضايا الإسلامية الحساسة في كل محطاتها، لاسيما في المجال السياسي إذ تعد الرسالات السماوية والكتب المنزلة أعظم النظم السياسية وأسمى دساتير العالم في إدارة المجتمع ورسم معالم الدولة القويمة.
والمتابع لسيرة النبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه، يجد أن كل خطوة عملية قام بها عليه السلام في المدينة مثلت قرارا سياسيا لبناء دولة المؤسسات الحقيقية، فبنى المسجد ليكون مقرا للعمل السياسي، وكانت المؤاخاة لتحديد مفهوم الانتماء والمواطنة، ثم كتب وثيقة المدينة لترسيخ أسس العلاقات الاجتماعية داخل الحياة السياسية في المدينة وما حولها، وكانت الرؤيا عالمية لا محلية ولا إقليمية.
في مجتمعه الأصغر
في المجتمع الصغير تبرز ملامح الشخصية التي تسوسه عليه السلام، وأسرته كانت مجتمعه الأصغر، له ميزته الخاصة به، وهذه الخصوصية أمر مهم جدا، إذ يترقب أفراد المجتمع الأكبر مايصدر عنه من سلوك ليتخذوه أسوة، فضرب أروع الأمثلة في خلقه داخل المنزل وسياسته الأسرية وكيفية إدارة الأزمات التي قد تحدث داخله.
فغالبا مانجد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم صاغيا جيدا لنسائه، يكفكف دموعهن، ويخفف عنهن أعباء الحياة ويساعدهن في أمور الدار، إضافة إلى تعامله مع أبنائه، فحظيت البنات بحب رسول الله صلوات الله عليه فكان إذا دخلت عليه فاطمة عليها السلام ابنته قام لها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها مجلسه، ولم يكن متعاليا عليه السلام على أهل بيته رغم انشغاله بالرسالة السماوية وشؤؤن أمته.
فتوارد الأحاديث والروايات بهذا الجانب كثيرة تؤكد على أنه كان يخصف نعله، وويخيط ثوبه ويقوم بأعمال المنزل لمساعدة أهل بيته واعانتهم، فهذه الصورة الرائعة في التماسك والتكامل الأسري رسالة كان يؤديها سلام الله عليه وسياسة ينتهجها لتكون هي الخطوة الأولى لتصحيح مسار السياسة المجتمعية وسياسات إدارة الدولة لتكون متطابقة مع الشريعة الإسلامية.
رسول أم مفكر؟
كل شخصية مهما رحب تفكيرها ووسع أفقها، وطال صبرها وهدأت مشاعرها، لا تستطيع أن تتصرف بحكمة وتسلك التعقل، إذا كانت الأحداث عنيفة، ولكن رسول الله على الرغم من عنف الأحداث التي مرت به إلا أنه كان يهدئ ثائرهم ويطفئ غيرتهم ويعمل على ارضائهم.
ومع ذلك ربما المتابع لتسلسل الايات القرأنية التي تتحدث عن رسولنا الأكرم محمد صلوات الله وسلامه عليه ولكتب التفسير الخاصة بها يجد أن البعض قد يرفض فكرة أن يكون النبي مفكرا او سياسيا بالاستناد إلى النص الإلهي ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ...﴾.
هذا التوصيف السماوي والمنزلة الرفيعة سمة لابد من تفكيك شفراتها ومعرفة الاتجاهات ذات الصلة التي تؤدي إلى بناء أسس رصينة وصحيحة، واثناء البحث لكتابة هذا التحقيق وجدت أن الكثير ممن خرج عن نطاق النص القرآني لوصفه صلى الله عليه وآله بالمفكر، وأعتقد أن هذا ثابت من الثوابت التي تؤكدها رؤيته الفكرية التي من خلالها رسم لنا أبرز سمات الفكر السياسي الإسلامي وخصائصه.
ففي الوقت الذي لايمكن نكران أن محمد الرسول الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، لا يمكن أن نلغي بشريته وذاتيته وهذا لن يقلل كون النبي متلقيا عن ربه وتعزى له الرؤى التي يمكن أن تدرس من خلالها مبادئ النظرية السياسية في الإسلام وهذا لا يتعارض مع المبادئ السماوية، فالفكر الذي ينبثق من رؤيته كبشر فكل سلوكياته بشرية برعاية إلهية وهذه الرعاية تمنع أن يتوقع منه الخطأ الفكري ففكره شرع ورؤيته دين.
نظام المادي الروحي
نظام جمع بين ناحيتين مادية وروحية، امتزجتا ليصبح التكافل الاجتماعي مندمجا مع الروحي الذي نصت عليه الآيات القرآنية، فالنبي محمد صلوات الله عليه حين أقام الدولة لم تكن دينية وشرعية فقط بل كانت دولة سياسية واقعية من خلال منظومة متكاملة تتحرك على مدار الأرض فالاسلام المحمدي نظام سياسي متكامل.
ويذكر المستشرقين ذلك من خلال نصوصهم التي تناقلتها الأجيال، كارل نيللينو مستشرق إيطالي الأصل يقول:- ( لقد أسس "محمد" في وقت واحد دينا ودولة وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته).
ويبين الدكتور شاخت أن (الإسلام يعني أكثر من الدين وإنه يمثل أيضا نظريات قانونية وسياسية وبالمجمل إنه نظام كامل من الثقافة الدينية والاجتماعية والسياسية يشمل جانبي الدين والدولة).
فيما عد آخرون أن الإسلام ظاهرة دينية وسياسية، إذ إن مؤسِّسه كان نبيا وكان سياسيا حكيما، رجل دولة حقيقي رئيسا للدين ورئيسا للدولة، ولمن يبحث عن أدلة لما تقدم من وصف لدولة المصطفى أحمد صلى الله عليه وآله فوثيقة المدينة التي رسمت الطرائق الناجعة للتعايش المجتمعي ثبتت أركان الدولة الإسلامية بقيادته الحكيمة.
الثقافة السياسية سلوك..
لا يخفى على أحد أن الرسالة الإسلامية التي جاء بها نبينا الصادق الأمين "صلى الله عليه وآله" مرت بمراحل عديدة وفي كل مرحلة كانت تختلف معها السياسات الداخلية والخارجية للقائد، وكيف يمكن أن يتجاوزها بنجاح.
إلى أن أوان بناء الهيكل العام للدولة ورسم السياسة العامة لها، إذ لابد من نجاح الدعوى المنشودة وتحقيق عالميتها، فالمفكر العالمي كان يبحث عن آلية تساعده على انجاز المهمة باتقان، فبعد سرية الدعوة ونجاحها، اعلنها وعرضها على القبائل باعتبار أن الدولة قبيلة كبيرة والقبيلة دولة صغيرة.
ورغم كل الرفض والعنف الذي تعرض له الرسول الخاتم "صلوات الله عليه" إلا أن عظم الحق واتقان الصبر وأحكام الخطة وبراعة السياسة، كفيلة بأن تفتت صخور الأزمات الصلدة، وتهدهد عنفوان الجبابرة وتطوع القلوب النافرة.
وبعيدا عن جانب التسديد الإلهي الذي يتحدث عنه البعض في سر نجاح السياسة المحمدية في إدارة جميع مفاصل الأمة وليس دولة تحدها حدود، فإنه قدم دروسا عظيمة في سياسة أمر المسلمين واستثمار قدراتهم في التغيير الذي كان يصبو له كقائد جديد للعالم.
وإذا ما جئنا بالمقارنة لنظام حكمه "صلوات الله عليه" مع الأنظمة الحالية الرأسمالية والملكية منها والمختلطة من كليهما فإننا نجد أن الأخيرة تسير وفق المنطق المعكوس لأن الأول هو المنهج الذي حقق كل الصفات المنطقية التي يرتضيها العقل والفطرة والإنسانية، وماعرض خلاف ذلك فهو غير سليم.
فلا يمكن أن نجد في كتب التاريخ ولا نظام حكم مر عبر الأجيال يتلائم مع التغيرات الزمكانية ويكون دستورا عالميا واضح المعالم، إلا دستور محمد الأمين "صلى الله عليه وآله" الذي قد خلت من قبله الرسل عبر وثيقة عالمية عدت مصدر لكل دساتير العالم ولا تزال حتى يومنا هذا وإلى ظهور القائم من آل محمد عجل الله فرجه لتحقق تلك الوثيقة مطالبها بصريح العبارة.
نقطة تحول..
وثيقة تكتب لأول مرة في تاريخ البشرية تعد دستورا عبقريا لتطبيق القانون الإلهي الشامل أسست للتعايش السلمي الذي ترتكز عليه أسس كل دولة مدنية حديثة ناشئة.
وحتى لا يظن البعض أننا نتحدث عن سويسرا أو باريس، تلك هي فطرة الله التي تنسجم مع الدلالات الواقعية التي يهذبها الإسلام ويحفظها من التشظي والتغول.
رسالة كانت من محمد النبي رسولِ الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومَن تبعهم ولَحِق بهم وجاهَد معهم، يوصيهم أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يَفْدون عانيَهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوفٍ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفة تفدي عانيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وقد كان لما تم إنجازه عبر البيعتين الأولى والثانية، أثره الواضح في بناء الأسس التي ستقوم عليها دولة المدينة، حيث مثلت الهجرة التي كانت واحدة من أهم منجزات البيعتين نقطةَ التحول الأساسية لبناء عهد جديد، فمن الناحية الشكلية بدأت تتكون معالم الحركة الإسلامية الوليدة، حيث تحول مسارها من دعوة سرية في مكة إلى نهضة تبحث عن موقعية، وتسعى لبناء مجتمع منظم، على قواعد سياسية، تحت قيادة محمدية، إذ يمكن الحديث هنا عن تحول درامتيكي في حياة هذه الجماعة الناشئة، تحول من مثالية التجرِبة النظرية في عرض الفكرة، إلى واقعية التطبيق العملي لها.
الخلاصة..
كل ماتقدم من عرض موجز للحياة السياسية لنبينا الأمي "صلى الله عليه وآله" وما تتناقله كتب التاريخ ومايذكره المتتبعين لسيرته العطرة، نجد أنه كان يتمتع بثقافة سياسية وحنكة مكنته من إدارة الدولة وفق منهج يتوافق مع ما أنزل الله من برهان، إذ تعد الثقافة السياسية من أهم المداخل إلى علم الاجتماع السياسي لا سيما لدى باحثي العلوم السياسية، تكمن أهميتها في دراسة نمطين من الثقافة:- الخارجية التي تحدد سلوك المجتمع، والداخلية وتشمل اتجاهات المواطن إزاء السلطة والنظام السياسي.
وهما الجوهر الأساس في البحث عن الثقافة السياسية، فجملة الأنماط والقيم والأعراف والعادات التي تنظم السلوك لدى جماعة ما في حقل الدلالات العلمية والروحية والحسية، تحدد أسلوب استعمال تلك الجماعة لمواردها البشرية والمادية ونوعية استهلاكها للبيئة.
إذ تلعب الثقافة السياسية دوراً مهماً في تشكيل شخصية الفرد، وبما أنها الجانب السياسي من الثقافة، لذا فإنها وإن كانت صنيعة النظام السياسي إلا إنها تأخذ بنظر الاعتبار قيم ومعتقدات وتوجهات الرموز التي تحكم السلوك، فتعمل على قولبتها وتحويلها بشكل تدريجي للتوافق مع توجهات النظام.
من هنا نستخلص أن كل عملية تغيير يراد لها النجاح المؤكد يجب أن تسير وفق منهجية موضوعة مسبقا تحت قيادة حرة حقيقية، وأن لا تنافي في مبادئها ومعتقداتها وسلوكياتها الفطرة والعقل والانسانية أركان التقدم السليم في أي مجال من مجالات الحياة التي كان يؤكد عليها نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
اضافةتعليق
التعليقات