لكل تاريخ ذكرى، ولكل مكان حكاية، هذا ما تعارف عليه الجميع، الا انا لكل ثانية ذكرى، ولكل مكان صدى، ثمة بقايا من الماضي تترجح في ذاكرتي، وتجعلني اسيرة لتلك الاوقات، زمجرة الماضي تضرب في مخيلتي، اضع يدي على رأسي، وادور حول السنوات الماضية، كما تدور الناعورة مع الماء.
ايام تركت بصمة في حياتي لا تنسى ولا تمحى، واحنّ كثيرا لعودتها، من ماء النهر، واصوات العصافير التي ترقد عند نافذتي واوراق شجرة السدر وكيف تزيّن ارضية الدار، رغم بساطتها لكنها كانت جميلة بكل ما فيها، والشاشة الصغيرة السوداء التي نجتمع عندها في التاسعة لنرى فقرة الاطفال، وينتهي البث وتُغلق الشاشة، اذكر انني بقيت حتى نهاية البث لكي ارى تلك الالوان عند اغلاق الشاشة، وعاقبتني جدتي في يومها وكان عقابها ان اشرب الشاي من دون سكر، حتى لا اعيد الكرّة، حسب قولها ان السكر يزيد البنت حلاوة، وقتها حرمتني من السكر!.
وشيء اخر اذكره هو اخر ليلة من شهر شعبان، حيث العائلة تجتمع في سطح الدار وتراقب رؤية الهلال، واصوات الجيران وصلواتهم تبشر برؤية الهلال، وتبدأ الاواني تأتي من الجيران كنوع من المحبة، وتسكب امي صحن الرز العنبر مع المرق والحلاوة وتقدمه لجارتنا، صغار نحن نرتع ونحن صائمون، نشعر بعطش شديد لا احد يقبل ان نفطر، تتعالى اصوات الجميع اذكروا عطش الحسين، في وقتها كنت اشعر ان هذه الكلمة كبئر زمزم تروي العطشان بمجرد قولها.
جميعنا يجلس حول مائدة رمضان، عند اليمين ابي واخي وعند اليسار امي وجدتي وبجانبي تجلس اختي وخالتي، وتبتعد عني عمتي وابنتها، وعند نهاية المائدة تجلس زوجة عمي الكبير، من دون قطيعة او بَغْضاء.
والدي يقرأ دعاء الفطور( اللهم اني لك صمت..) و نردد اللهم امين، تتكاثر الايادي نحو الطعام، لا نسمع احد يقول لا ارغب في هذا الطعام، يأكلون مما رزقهم الله، وفي قدح كبير تسكب منه جدتي للجميع وبالدور، حتى يصل لبن جدتي الينا، نتنظر والكاسات بأيدينا، لحظة تذكرت المدفع وكيف كان صوته يرن في قريتي، يا الله هل من عودة لهذه الايام.
ويقهرني انني اتحسر على عودتها في هذا الزمن العجيب، لا يشبه الماضي بشيء ولا الحاضر، مصفر فاقع لونه، لا يسعدني، اتوقف عن الدوران بمجرد سماعي صوت قراءة القران، اجهز المائدة لعائلتي، الكل مشغول في هواتفهم، منهم من يتصفح الفيس بوك، واخر يشاهد برنامج على اليوتيوب، واما ولدي الصغير فقد حظي بالحظ الاكبر على قوله لانه حصل على مشاهدة عالية لمقطع نشره اخيرا.
وحيدة انفث حرارة جسدي، حاولت كثيرا في الاسراع، باشر المؤذن بالتوجيهات الدينية، واصوات اطفالي تتعالى: امي اين الطعام، لماذا تتأخرين هكذا، نظرت بنظرة ساخنة لكنها سرعان ما انطفت بابتسامة زوجي، امتلأت المائدة من الطعام، يجلسون اولادي حولها، امسك ولدي الهاتف واخذ يلتقط الصور للطعام والعصائر وتارة يلتقط سيلفي، وينشر الصور قبل ان يتذوق طعامه، والجميع يعلقون عليه وينتهي الفطور وهم يأكلون بيد واخرى يتصفحون في الهاتف.
مع انتهاءهم من الطعام، يصرخ ولدي: بدأ المسلسل الكوميدي، والذي هو استعراض للرقص والاغاني، اقف على رأسهم: الصلاة، الصلاة يرحمكم الله، ومنهم من يصلي ومنهم من ينتظر حتى ينتهي المسلسل، اكاد ان افقد صبري، لسوء تصرفاتهم، ويا حبذا لو كانت هذه الامور فقط، بل وصل الامر الى قراءة القران بجهاز الهاتف!.
ففي ليلة القدر عملت جارتي محفل قرآني وبعدها مجلس عزاء مواساةً لأمير المؤمنين(عليه السلام) في ذكرى استشهاده، وعند قراءة اعمال ليالي القدر وحمل القرآن على الرؤوس، استوقفني مشهد احزنني جدا، قد يكون عند البعض مقبولا، لكن انا لم اتقبله، وقفت امامي امرأة، وضعت هاتفها على رأسها، والجميع يضعون المصحف على رؤوسهم، اي عصر هذا؟!
هل اصبحت الهواتف تشاركنا حتى في الأجر؟ لماذا دخلت التكنولوجيا في عبادة اولادنا، لا يستطيع الشاب فراق هاتفه، يجلس على مصلاته وهاتفه معه، في زيارة الائمة يلتقط الصور ويشاركها مع رفاقه، لا ينام حتى ينشرها بصفحته الشخصية ويشعر بالفخر لمساعدة العائلة، وجارتي التي انفصلت عن زوجها عرفتُ الخبر عن طريق حالتها وصورتها الشخصية!.
كانوا يقولون سيأتي يوم وترى سرك منشور، لم اكن اصدق حتى جاء هذا اليوم وعرفت ماذا كان يقصد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)، صحوت من رحلتي هذه بإشارة من الهاتف يطلب مني فصل الجهاز من الشحن لامتلاء البطارية، ومازالت عبادتي تنخفض في توصيل قلبي وعقلي، وكلما تركت روحي تمتلئ من بحر العبادات، يفصلها هاتفي ويلتقط سيلفي مع هلال عيد رمضان.
اضافةتعليق
التعليقات