في خضم الحوادث الجارية، وعلى مرأى ومسمع العالمين، تتسع فجوة الكراهية والشحناء، وتتفاقم الأزمات في بلاد الاسلام، بسبب التشدد والغلو والتعامل بمنتهى الوحشية في تصفية الحسابات.
متى كان اسلامنا يدعو إلى القسوة؟ ألم يقل رسول الله وهو الرحمة الواسعة: (إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه)؟
الاسلام كدين إلهي استطاع بفترة قياسية توحيد كل أهواء العرب المتضاربة ابان دعوته الأولى، فاستمال أخلاقهم البدوية وشذبها وحسّنها، وتمكن باللين أن يغطي على كل ما اتصفوا به من قساوة وغلظة، فكان نبي الرحمة هدية السماء لهم، بسط رحمته على أرجاء المعمورة، وعامل قومه بمنتهى الخلق الكريم، ولم يتعامل معهم بالمثل بعد أن استتب له الأمر.
فكانت الأمة الإسلامية في زمن الرسول، أمة معتدلة في عقيدتها وعبادتها وسلوكها، لا إفراط فيها ولا تفريط، فلا تميل إلى التشدد ولا إلى التهاون.. وكانت بحق (أمة وسطا) كما أرادها الله سبحانه وتعالى. (وكنتم خير أمة اخرجت للناس...) والوسطية هي أولى ملامح الأمة الخيّرة، وتعني الوسطية العدل والانصاف في التعاطي مع الأمور، وعدم الميل إلى الغلو وتكفير الآخرين.
واليوم نجد من يدّعي انتماؤه للاسلام، والاسلام منه بريئ براءة الذئب من دم يوسف، يخوض في دماء المسلمين، دون رادع من ضمير أو انسانية، فيقتل ويكفّر وينشر الكراهية على أوسع نطاق، ثم يعود ويبرر معاملته القاسية بانّ دينهم أمر بذلك!!
وما أحداث الساحل السوري عنا ببعيد، تصفية طائفية بغيضة مورست بحق العلويين وهم مسلمون ويشهدون الشهادتين، ولكنهم يتعرضون اليوم إلى إبادة جماعية من بني جلدتهم.
هل هذا هو الدين الذي بشّر به نبي الاسلام؟ وهل هذه سمات دعوته المباركة والتي تنطوي على الصفح والسلم والرحمة؟
(لما رجع رسول الله "صلى الله عليه وآله" من غزوة خيبر، بعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الاسلام، وكان رجل من اليهود يقال له: مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى، فلما أحسّ بخيل رسول الله صلى الله عليه وآله، جمع أهله وماله وصار في ناحية الجبل، فأقبل يقول أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فمرّ به أسامة بن زيد فطعنه فقتله، فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله:
أفلا شققت الغطاء عن قلبه؟ لا ما قال بلسانه قبلت، ولا ما كان في نفسه علمت).
فالاسلام لم يزل يؤدب أتباعه على الحذر من التسرع في الحكم على الناس في دينهم، ولم يجوّز لهم قتل من أعلن إسلامه، حتى لو كان هناك شك في صدقه، بل ويدعوهم إلى الحرص على التثبت وعدم التعجل في إراقة الدماء المحرم سفكها.
ومن هنا نعلم يقينا أنّ دعوة الاسلام لم تكن دعوة ينقصها العدل والشفقة، بل هي دعوة شاملة تنطوي على سمات الرحمة النبوية والرأفة المحمدية.
ورواية: (أفلا شققت عن قلبه) تدل على عدالة الإسلام ورأفته، حيث كان النبي صلى الله عليه وآله، يعلّم أصحابه التحقّق وعدم التسرّع في التكفير أو القتل بغير حق.
لكنّ القوم لا زالوا يصرّون على الإساءة لنبي الهدى، ويسؤونه بأخلاقهم وغلظتهم، حين يتباهون بمجازر التنكيل والقتل بنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي.
(عن ابن يزيد عن ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم قالوا: أما حياتك يا رسول الله فقد عرفنا، فما في وفاتك؟ قال: أما حياتي فإن الله يقول: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" وأما وفاتي فتعرض علي أعمالكم فأستغفر لكم).
وأقول: هل سيستغفر رسولنا الكريم للقتلة ممن يستسهلون سفك الدم الحرام؟!
(وعن عثمان بن عيسى عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: ما لكم تسوؤن رسول الله؟ فقال له رجل: جعلت فداك فكيف نسوؤه؟ فقال: أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك؟ فلا تسوؤا رسول الله صلى الله عليه وآله وسرّوه).
فإذا أردنا أن نسرّ رسول الله ولا نسؤوه، فلنجعل نصب أعيننا: أفلا شققتم عن قلوبهم.. ولنكن امة وسطا كما أرادنا الله سبحانه، ولنتبع سبيل الاسلام في نشر الحب والسلام في أرض الله الواسعة.
اضافةتعليق
التعليقات