دخلت آنا المرحلة النشطة من المخاض. وكانت وصلت الأم إلى المستشفى قبل أقل من ساعة، وراحت تحرك جسدها.
على مهل تتمايل بوركيها إلى الأمام والخلف. تتوقف عن التحدث إلينا وتدخل المرحلة الانتقالية من المخاض [ما قبل مرحلة الولادة]. التركيز كله منصب الآن على لغة الجسد. عليه، لما صارت الانقباضات مصحوبة بأصوات من الأنين الطويل والصاخب، أشير إلى أن الوقت قد حان للنزول إلى الماء إذا ما كانت آنا ترغب في الولادة المائية. أومأت برأسها موافقة ودخلت حوض الماء برشاقة.
بعد مرور 45 دقيقة فقط، وفي غمرة شعورنا بالطمأنينة الهادئة شريكها وأنا، وللمرة الأخيرة قبضت آنا عضلات بطنها وحبست أنفاسها مستسلمة لرغبة ملحة بالدفع فخرج طفلها من الرحم ليطفو حراً في الماء. وعلى نحو غريزي، ترفع الأم صغيرها برفق إلى سطح الماء.
ويقطب الطفل وجهه، ثم يطلق صوت نحيب عاجلاً تسمعه القابلات في أسفل الممر ويعرفن أنها الصرخة الأولى لمولود حديث. "آه، جميل، يبدو إذاً أن الأم في الغرفة السابعة قد انتهت من الولادة للتو! سأبدأ بملء سجل المواليد..." تقول إحداهن.
كان ذلك مشهداً متخيلاً لامرأة حامل حالتها الصحية "منخفضة الخطورة" [تنتظر طفلاً واحداً وتنعم وجنينها بصحة جيدة] وصلت إلى قسم للولادة تحت إشراف قابلات قانونيات بعدما بدأ المخاض لديها بشكل تلقائي [من دون تحريض اصطناعي]، ونجحت في خوض ولادة مهبلية غير معقدة. كنت أستمع إلى نبضات قلب الطفل طوال دقيقة واحدة من الوقت كل 15 دقيقة، وأراقب نبض المرأة ودرجة حرارتها وضغط الدم ومعدل التنفس لديها.
ويساوي ذلك نحو خمس دقائق من "فحوص السلامة" في الساعة، أما البقية من الوقت، فتمضي بين مراقبة وانتظار لا يخلوان من عبارات تشجيع تحث الأم على عدم الاستسلام. يسعني أن أقول بصدق إن شعوراً بالقشعريرة يجتاح الجسد عند رؤية امرأة تثق بجسدها فتسير الأمور كافة على خير ما يرام.
إذا كنت أرغب في تحقيق أمنية واحدة للنساء غيري في هذا العالم، فهي أن تختبر كل امرأة تجربة الولادة التي تحلم بها، أياً كان شكلها. الولادة المثالية في نظر بعض النساء جراحة قيصرية يخترنها بأنفسهن، وتكون هذه الرحلة جميلة ومؤثرة بنفس قدر الولادة الطبيعية أيضاً.
وتختار نساء أخريات اللجوء إلى حقنة التخدير فوق الجافية أثناء المخاض بأسرع ما يمكن لأنهن يعترفن بأنهن "لا يتحملن الألم". أعتقد أن أفضل ما يمكنك فعله أثناء الحمل أن تبحثي في أعماق ذاتك وتحاولي أن تحددي شكل الولادة الذي يناسبك. لا تنال هذه المرأة أو تلك أي ميدالية كمكافأة على شكل معين من الولادة يتوافق مع أي نوع من الأعراف الاجتماعية المتصورة، وكل ولادة تبقى فريدة من نوعها تماماً كما بصمة اليد.
أحياناً، نسعى جاهدين إلى تحقيق الولادة التي نرى أنها مثالية، ولكن يظهر عامل خارج عن سيطرتنا يقف في المرصاد أمام أفضل خططنا. تستفيد حالات صحية كثيرة من مسارات الرعاية الفردية التي يشرف عليها استشاريون طبيون، ولكن معدل ضربات قلب الطفل يبقى التخطيط الذي تزيح قابلات الولادة عنه عيونها في أثناء المخاض، ذلك أن الانقباضات المطولة (من بين عوامل أخرى) تتسبب أحياناً وبمرور الوقت بنقص في الأوكسجين الذي تنقله المشيمة من الأم إلى الجنين.
ومعلوم أن نقص الأكسجة الشديد يقود إلى إصابة الطفل بمشكلات صحية دماغية طويلة الأمد، وإنه السبب الرئيس الذي يحمل الطبيب على أن ينصح المرأة فجأة بالخضوع لجراحة قيصرية طارئة، أو، التوليد الآلي [استخدام ملقط مخصص لإخراج رأس الطفل] إذا كان عنق الرحم قد بلغ مرحلة التوسع الكامل [أي 10 سنتمترات]. تتمثل مهمتنا في ولادة الطفل في أفضل حالة ممكنة، وليس الإسراع بالولادة فحسب.
نصل إلى "الولادة من دون مساعدة" أو "الولادة الحرة" freebirthing. إنها خيار ترتأيه المرأة الحامل للولادة من دون وجود متخصص مدرب. وقد شهدت المملكة المتحدة صعوداً في هذه الظاهرة خلال جائحة "كورونا"، عندما أصيبت النساء عن حق بصدمة كبيرة، إذ مُنع شركاؤهن من البقاء إلى جانبهن في المستشفى، إضافة إلى الخوف من الإصابة بالفيروس عند الدخول إلى هذه المرافق الصحية.
وأغلقت المستشفيات أقسام الولادة التي تتولاها القابلات بسبب حشد الموظفين في الأقسام العلاجية الأساسية، وشهدت بعض المناطق تسريحاً موقتاً للفرق المتخصصة بالولادة المنزلية المجتمعية.
هكذا تركت هذه التدابير النساء أمام خيار واحد فقط، إذ لم تكن الولادة في المستشفى مواتية لظروفهن. ولكن اختارت أخريات "الولادة الحرة" لأنهن شعرن بأنهن سيكونن أكثر أماناً بعيداً من النماذج الطبية للولادة، أو لأنهن تعرضن سابقاً لتجربة مؤلمة في المستشفى. لكل ظرف طابع فردي جداً، وجزء من دورنا كقابلات أن نقدم التعاطف والدعم لجميع النساء في مختلف خياراتهن بالنسبة إلى شكل الولادة.
في المملكة المتحدة، "الولادة الحرة" ممارسة مشروعة. ربما يكون شركاء الولادة و"الدولا" [أو رفيقة الولادة علماً أنها لا تمتهن مهنة الطب بل تساعد النساء قبل الولادة وأثنائها وبعدها] حاضرين فيما تخوض المرأة هذا الشكل من الولادة، ولكنهم قد يحصلون على غرامة مالية تصل حتى خمسة آلاف جنيه استرليني في حال تولوا دور القابلة بأي شكل من الأشكال.
أكثر ما يقلقني هنا أنه من المحال أن تعرفي ما إذا كان طفلك يعاني نقص الأكسجة ما لم تكوني على دراية تامة بحركات الجنين من بداية المخاض حتى نهايته، علماً أن ذلك لا ينطبق على كثير من النساء.
فهم التغييرات الطفيفة التي يستجيب فيها معدل ضربات قلب الجنين لانخفاض معدل الأوكسجين يتطلب ثلاث سنوات من التدريب المكثف كطالبة. هذه المهمة أكثر تعقيداً من مجرد التحقق من أن نبضات قلب الطفل مسموعة.
حتى لو اخترت الولادة في المنزل، من المؤكد أنه لن يضر وجود قابلة ذات خبرة أيضاً، قادرة على أن تنبهك وشريكك إلى أي مشكلات ومخاوف ربما تطرأ في خضم هذه التجربة. ألا نكون هكذا قد استفدنا من شكلي الولادة كليهما [في المستشفى وبشكل مستقل]؟
إذا كنتِ تفكرين في الولادة الحرة، أنصحك بأن تراجعي بعين الناقدة جميع البحوث والمنشورات المتوافرة في هذا الشأن، ثم التشاور مع القابلة بشأن ترتيباتك.
أقله، ستتحدث القابلة إليك حول كيفية إعداد منزلك ليتلاءم مع القادم الجديد، والخطوات المطلوبة لتسجيل ولادة طفلك. إعداد خطة مسبقة للرعاية الصحية ستلبي الحاجات الشخصية فيما تشتمل أيضاً على قدر من المساعدة المهنية.
القابلات موجودات هنا من أجل دعم الأسر ورغباتها، ولكن نظراً إلى أن الحفاظ على السلامة هو أحد المبادئ الأربعة الرئيسة في ميثاق أخلاقيات المهنة التي وضعها سجل "مجلس التمريض والقبالة" في بريطانيا، سوف يكون شاغلنا دائماً تقليص الأخطار التي تتعرض لها الأمهات والأطفال حيثما أمكننا ذلك. وكما كتبت طبيبة التوليد والقابلة الأميركية إينا ماي جاسكين ذات يوم: "الولادة آمنة فقط عندما نلتفت إلى الماضي ونستعيد هذه التجربة".
إذا بدا أن عيادة التوليد المحلية حيث تتعاينين تواجه نقصاً في الموظفين يؤثر سلباً في رعاية المرضى، أقترح عليك إرسال بريد إلكتروني في هذا الخصوص إلى الممثل البرلماني عن دائرتك. حسب اندبندت عربية
اضافةتعليق
التعليقات