ورد في الحديث القدسي: (عبدي أطعني أجعلك مثلي أنا أقول للشيء كن فيكون، أطعني فيما أمرتك تقول للشيء كن فيكون). ومن هنا تنشأ معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، وأم البنين (سلام الله عليها) صاحبة الكرامات الكثيرة التي نقلت عنها متواترا وشوهدت كذلك، وذلك بالنذر أو التوسل بها لتشفع عند الله .. بإهداء ختمة أو قراءة القرآن الكريم لها أو ما أشبه .
وقد سمعت طيلة حياتي كثيرا من كراماتها المتواترة ولا يسع المقام لبيانها . هذا ومن الواضح أن قوانين الكون - وهي لا تعد ولا تحصى - إنما بأجمعها بإرادة الله سبحانه، والكرامة خارقة للقانون الكوني ، ثم إنه ليس باختيار الإنسان نفسه أن يصبح نبيا أو إماما وإنما الله أعلم حيث يجعل رسالته، فيصبح وليا من أولياء الله ، بعد تطبيقه ما تقدم من قوله تعالى في الحديث القدسي : (عبدي أطعني ...) .
غير أن الطريق الى تلك الكرامات لم يكن سهلا أمام الانسان، فهو مرتبط بمقومات وعوامل عدة ينبغي التعامل معها بحنكة والتفوق على مصاعبها كـي يصل الانسان الى حالة التوافق القصوى مع الذات ويجتهد في طاعة الله ويعمل بما أمرهُ ، وهذا يعني قبول المرء بما يتعرض له أثناء حياته من مصدات وعوائق متعددة الاشكال والمصادر، ومنها المصاعب القدرية التي تفوق قدرة الانسان على التحكم بها مثل الموت والتعرض الى حوادث مهلكة ليس له القدرة على تلافيها أو مواجهتها كونها خارجة عن قدرته البشرية، وتحمل الأذى والمكاره ولا ينبغي أن نعبس أو تضيق صدورنا أو نحزن بسبب تموجات الحياة بل يجب أن نعمل بوظيفتنا في كل الأحوال - سواء الصعبة أو السهلة ـ وأن نعتبر ذلك امتحاناً إلهياً لنا.
وهكذا بالنسبة إلى ما للسيدة الجليلة أم البنين من المعنوية العالية والمقام العظيم.. حيث يمكننا أن نحس بشيء من العبر وما نراه من الآثار المترتبة على التوسل بها وجعلها شفيعة عند الله ذلك عز وجل في قضاء الحوائج . فإن النذر لها يحل المشاكل الكبيرة التي هي بحاجة إلى الإمداد بقوة الله سبحانه، كشفاء المرضى الذين لا شفاء لهم ، ومن تعسرت أمورهم فكانت لها فضيلة كبيرة لقضاء حوائج المؤمنين، وسر غيبي عظيم لكرامات هذه السيدة الجليلة.
ومما يؤسف له أن التاريخ قد تنكر لهذه المرأة العظيمة، ففي الوقت الذي يحصي لنا صغائر الأمور وتوافهها من مجالس اللهو والطرب في دولة بني أمية وبني العباس، حتى لون قلادة ذلك القرد ، وشسع نعل تلك المومة، ومواء قط ذلك البلاط ، وغير ذلك مما لا يُذكر أهلاً أن يذكر. نجد حياة هذه المرأة الجليلة مطموسة مغمورة، فأين أيام هذه المرأة المعجزة التي تكللت بالقيم والمثل العليا أين مواقفها الكريمة ؟ أين مواعظها ؟ أين علمها ؟ أين جهادها ؟ أين صبرها ؟ أين أيامها التي قضتها في بيت الإمامة ؟ أين إحياؤها الليل بالعبادة والمناجاة ؟ وأين... وأين؟ يصل الأمر إلى أن لا نجد في صفحات التاريخ ما يثبت حتى يوم ولادتها .
يقول الشهيد الأول الفقيه الورع محمد بن مكي العاملي صاحب اللمعة الدمشقية :
كانت أم البنين من النساء الفاضلات العارفات بحق أهل البيت مخلصة في ولائهم، ممحضة في مودتهم، ولها عندهم الجاه الوجيه والمحل الرفيع. وقال سيد محسن الأمين في أعيان الشيعة أنها شاعرة فصيحة، وهي من بيت عريق في العروبة والشجاعة . ويقول النقدي في كتابه "زينب الكبرى" عند ذكره لأم البنين «كانت من النساء الفاضلات العارفات بحق أهل البيت كما كانت فصيحة بليغة لسنة ورعة ذات تقى وزهد وعبادة. ويذكر في الروايات المعتبرة عند دخولها الزهراء بعد زواجها من أمير المؤمنين عندما استقبلها الحسن والحسين وزينب وام كلثوم (عليهما السلام) قالت لقد جأت لخدمتكم. لقد جسدت أم البنين صفات ال المؤمن والأم الصالحة والمديرة ، ما أرادت هي أن تسمّي نفسها : الخادمة المخلصة. فكانت تقوم في بيت الإمام علي بما تقوم به المرأة التي تريد لزوجها كامل السعادة، وتريد لأبنائها وأبناء زوجها كل الخير والتقدم. و تريد لحياتها كل ما في قضاء الله وقدره ورضاه. لم تكن أم البنين تقدم راحتها على راحة زوجها وأبناء سيدتها فاطمة الزهراء، فكانت أول يوم دخلت المنزل وجدت الحسن والحسين مريضين فأخذت تسهر معهما وتقابلهما بالبشاشة ولطيف الكلام وتعاملهما كالأم الحنون .
ولا تنام إلا بعد أن تطمئن قد هيئت للحسن والحسين وزينب وام كلثوم ما يريح نومهم ويسعد أحلامهم. ولم تكن تأكل إلا بعد أن تُشبع أبناء علي وفاطمة من الطعام، وتنشر عليهم من كلمات الحنان وتوزّع على الجميع في البيت ابتسامات الرضا والابتهاج بهم . ولم تكن أم البنين تترك المنزل وحجره وساحته والمطبخ أيضاً إذا تأكدت من نظافته ورتابة محتوياته، وهي تعلم أن ذلك كله ليس واجباً ، وإنما كانت تتطوع خيراً لنفسها ، تدّخره ليوم الحاجة إلى الأجر الأخروي، ولأن بذلك تتكامل فصول التعاون في الأسرة. ولم تكن أم البنين تؤخر صلاتها عن وقت الفضيلة، ولم تكن تنسى تلاوة القرآن والدعاء. ولم تكن تهمل الجيران إذا طرقوا باب دارها.
أم البنين هي الزوجة المثالية هي أم بكل معاني الأمومة الموفق وأجر وثواب وتواضع وإخلاص أم البنين ما كانت ترى لنفسها وجوداً من دون واجباتها الشرعية والأخلاقية والإنسانية. وما كانت تفكر في حقوقها كزوجة ولا كأم ولا كمديرة لبيت الزوج ولا كخادمة بل ذابت وأذابت نفسها بكل فخر واعتزاز في أن تؤدي دوراً في رضا الله وسرور زوجها وأبنائه الحسن والحسين وبناتها زينب وأم كلثوم.
كانت تقول : أريد رضا الله وشفاعة محمد رسول الله . وأن أسمع الزهراء في يوم القيامة تقول لي: أحسنت يا أم البنين، ماقصرت مع أفلاذ أكبادي... بيض الله وجهك !
هكذا كانت الزوجة التي اختارها الإمام علي بعد زوجته الأولى فاطمة الزهراء "عليها السلام" التي غيبتها الحياة وهي لم تكمل الثامنة عشرة من شبابها هكذا كانت أم البنين... صديقة حميمة للزهراء ، ومثالاً صادقاً للتفاني والحب والإخلاص ونكران الذات والعمل الدؤوب في سبيل الله. عاشت في المدينة المنورة وانتقلت إلى الكوفة ثم عادت إلى المدينة، مسيرة كلها طاعة للزوج المطيع لله .
إيثارها الحسين على أولادها وسؤالها عنه
ومن المواقف السامية التي ازدانت بها حياة السيدة أم البنين، أنها وبعد أن عاد السبايا إلى المدينة جاءت إلى الحوراء زينب تقسم عليها بأغلظ الأيمان لتخبرها عما فعل أولادها يوم عاشوراء خصوصاً سيدهم وكبيرهم قمر بني هاشم العباس بن أمير المؤمنين ، وهل كانوا عند حسن ظن أمهم وأبيهم فيهم؟ وهل وفوا لإمامهم وسيدهم سيد شباب أهل الجنة ، ولم يبخلوا عليه بشيء ؟ وهل أدوا حق النصرة كما ينبغي ؟ ورحت تكرر السؤال على الحوراء زينب كل ذلك بغية التأكد من وفاء أولادها لإمامهم ونصرته والذود عنه، وما أعجبه من موقف ! إنها بدل أن تسأل عن جراحات أولادها أو مصارعهم، كيف سقطوا ومن قتلهم ومَنْ حز رؤوسهم ومَنْ مَثل بهم وأية خيل رضت أجسادهم، ذلك من الأسئلة التي تكشف مدى تعلقها بأولادها وحزنها بدل كل ذلك تسأل عن وفائهم للحسين وعن ذودهم عنه، ومواساتهم له، مما يكشف عن عظيم إيمان وسمو معرفة تميزت بهما هذه السيدة الصابرة . وجاءها الجواب من الصديقة زينب مبرداً لغليلها، ومنوناً لنحيبها ، ذلك الجواب الذي هللت لسماعه وشكرت الله تعالى لتحققه ، فلقد بينت لها أنهم لم يكتفوا بالذود عن الحسين والقتال بين يديه والمواساة له وسطروا أروع البطولات، وواسوا أخاهم وإمامهم الحسين حق المواساة خصوصاً بطل العلقمي وساقي العطاشى الذي تعجبت من بطولاته وصولاته ومواساته ملائكة السماء.
وفاء الزهراء لأم البنين في يوم القيامة
وورد في الحديث : أن الزهراء سلام الله عليها تخرج يوم القيامة وفاء لأم البنين الله التي ما سألت عن أولادها وانما سئلت عن الإمام الحسين ، فتخرج يوم القيامة وتحت ردائها طبق في كما أبي الفضل العباس. تأتي وهي حزينة تصيح : « إلهي خُذ بحقنا، وأنتقم ممَّن ظلمنا ، وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا ». فيأتي النداء من ربِّ العزّة : « يا زهراء : ماذا تریدین »؟ يا فاطمة فتقول: « يا ربّ شيعتي». فيقول الله عزَّ وجلَّ: «قد غفرت لهم». فتقول : يا رب شيعة ولدي » . فيقول الله عزَّ وجلَّ : «قد غفرت لهم». ثم يقول الله : إنطلقي فمن اعتصم بك فهو معك».
فتسير ويقوم كل هؤلاء فيسيرون معها . وفي رواية : تلتقط شيعتها كما يلتقط الطير الحب الرديء من الحب الجيد . نعم الصديقة الطاهرة تتقدم للشفاعة ولكن بماذا تشفع ؟ ورد في الخبر: أنها تخرج وتحت ردائها طبق فيه كما أبي الفضل العباس المقطوعتين. ثمَّ يأتي النداء: «ماذا تريدين ؟ هل جنتِ تُطالبين بكسر رباعية أبيك محمد ؟ فتقول: «لا يا رب »
يا فاطمة : هل جنتِ تُطالبين بكسر ضلعك وما جرى عليك من المصائب يوم الباب ؟ فتقول: «لا يا رب».
يقول: « يا فاطمة هل جئتِ تُطالبين بمظلومية بعلك علي أمير المؤمنين وبما جرى عليه من غصب حقه من الخلافة ؟ فتقول:«لا يا رب ».
يقول: «هل جنتِ تطالبين بحق ولدك الحسن المجتبى وبكبده المقطع ؟ ».
فتقول: «لا يا رب ».
فاطمة : «هل جئت تطالبين بمصائب ولدك الإمام الحسين ؟
فتقول: «لا يا رب. فها هنا يتعجب الخلائق فيقول: «إذن بم جنتِ تطالبين يا فاطمة ؟ » فتخرج فاطمة الزهراء طبقاً فيه كفا أبي الفضل العباس (عليه السلام) اليمين والشمال، فتنادي فاطمة الزهراء: «إلهي ما ذنب هذين الكفين حتى قُطعا من الزَّند». أنظر إلى وفاء الزَّهراء لأم البنين . لاشك أنَّ هذا الموقف من الزهراء هو قمة الوفاء لأم البنين ، التي ما سألت عن أولادها الأربعة يوم أخبرها بشر بشهادتهم وإنما سألت عن أبي عبد الله .
كانت تعرف مستوى بيت علي ذلك البيت المتواضع في حب الله وتدرك جيداً في نفس الوقت أن اقترانها بعلي يعني الأبدية والفوز المحقق بدار الخلود، ذلك لأنها تخدم وتطيع وتتبع مواعظ سيد الأوصياء، وإمام الأتقياء ومن يأخذ بيدها حتماً نحو الفلاح، فأحسنت تبعلها له وسارت على نهجه إلى جنات النعيم.
وفي الختام نرى أن التوافق مع النفس مطلوب في كل الأحوال، غير أن هذا الأمر ليس من البساطة بحيث يكون متاحاً امام الجميع، لأن المسألة تتعلق بمدى قوة إيمان الانسان ودرجة قدرته على قبول الوضع الذي يعيشه مهما كانت درجة صعوبته، كونه يمر في حالة امتحان متواصلة طالما كان على قيد الحياة فالدنيا كما هو متفق عليه بين الأديان السماوية كافة هي قاعة امتحان كبيرة تتطلب من الإنسان الذي يأتي هذه الحياة أن ينجح فيها، ولعل نجاحه يتعلق تماما بدرجة إيمانه وتحمله لكل ما يتعرض له من حوادث منغصة لحياته، والأعمال التي يقوم بها في سبيل الله.
اضافةتعليق
التعليقات