لا يوجد تاريخياً -كما يرى البعض انفصال بين الجدية والتفاهة، فالتفاهة أيضاً تعد أصلاً ملاصقاً للإنسان كالجدية، ولم تتفرد الجدية بالإنسان من قديم الزمان، بل حيث وجدت الجدية وجدت التفاهة، ربما لأن الأشياء لا تتميز إلا بضدها، فلو فرضنا عدم التفاهة لانعدم إدراك الجدية، وستكون عندها نسق حياة لا يمكن فصله أو إدراكه.. والميل إلى القول بهذا الكلام جزء من الفطرة، وهذا يعني أن التفاهة ظاهرة قديمة، موجودة مع الإنسان، والحديث عنها ذماً ومدحاً في انتشارها الكثيف والطاغي، وكذلك اعتبارها وسيطرتها على العالم، وإيلائها أكثر من قيمتها فأصبحت مع الأيام معترفاً بها.
وأصبح الإنسان التافه معترفاً به من قبل السوي، فكأن السوي يقول للتافه: أنت سوي مثلي، بشكل آخر وهذه هي مشكلتنا مع التفاهة، تضخمها التعايش معها، عدم النفرة منها، قبولها كحالة صحية في المجتمع، أما القول بقدمها وعتقها فهذا القول وارد ، لأن التفاهة فيها جهة نفسية متعلقة بنفس الإنسان بوجه من الوجوه، فلا ضير من القول بقدمها..
إلا أن من الأقوال المرفوضة عقلاً نفي التميز تاريخياً بين التفاهة والجدية، بمعنى القول: أن التفاهة هي في وجه من وجوهها جدية، لا تقل جدية عن غيرها من الممارسات، وكما أن الجدية قد مارست نوعاً من أنواع الدفع بالمجتمع إلى الإمام فكذلك التفاهة، من الممكن أن نقول أن لها دوراً في تعرية المجتمع من عيوبه، وتنقيته، وتنمية قدراته عبر الزمن!!
وهذا كما ترون تلميع للعبثية، وتسويق لها، ومحاولة إلى القول بأصالتها، ونحن إذ نقرر قدمها، إلا أننا لا نقول بأصالتها، فهي حالة قديمة، إلا أنها ليست أصيلة، بل عارضة، تظهر بين الحين والآخر في النفس والعقل والسلوك، أي أن جذورها ليست ضاربة في التاريخ، كأساس مستند عليه، بل مرت على التاريخ كحالة تظهر وتخبو.. وإنني أرى أن للتفاهة جذوراً تاريخية بينة وواضحة، وهذا ما أراه بعيني فكري، وهذه الجذور إنما ظهرت في السوفسطائية بكل أشكالها العندية والعنادية واللاأدرية، هذه الجذور الواضحة، أما غير الواضحة فلا شك أنها أقدم وأقدم.. ولابد من تقديم بسيط لعرض أفكار السوفسطائية لتكتمل الصورة عندنا ... ينقسم السوفسطائيون إلى ثلاثة أقسام بحسب زاوية الرؤية ونظرتهم للأشياء، فهم عندية وعنادية ولا أدرية، فالعندية ترى أن الحقيقة نسبية، والأشياء نسبية، بحسب الناظر إليها، فما تراه أنت من الحقيقة في شيء من الأشياء قد أرى أنا خلافه! فأحكام الأشياء غير ثابتة، وإنما تعود إلى اعتقادات الناس ووجهات نظرهم، فهم يقولون بتعدد الحقائق بشكل تقريباً- غير منته، وإنما تتعدد بحسب عدد الناظرين للشيء، واختلافاتهم حوله، ومشكلتهم باعتبار نظرة الجميع للشيء، فهي ليست مجرد وجهات نظر، وإنما تعدد للحقائق، فالكذب قبيح عندي، فهذه حقيقة عندي قائمة بنفسها وحسن عندك، وهذه حقيقة ثابتة قائمة بنفسها، وكلاهما حقيقة عند العندية، وهذا كما يقول أهل الحقائق عين المحال..
وأما العنادية فإنهم القائلون بإنكار الحقائق رأساً، فلا حقيقة عندهم، وليس للشيء في ذاته حقيقة ثابتة، وإنما مجرد خيالات وأوهام، وهي كما ترون منسوبة للعناد، وهذا القول أشد بالتفاهة من العندية، ولكنه أوضح في البطلان، فإن العندية قد تنطلي على البعض ويشكل ووجه.
البطلان فيها ويختفي وراء المصطلحات، أما العنادية فلا يمكن تصورها، إذ هي تريد منك أن تنكر وجودك مع أنك تشعر به، وتعيشه، وإنكاره ضرب من الجنون، فالعنادية ضرب من الجنون.. وأما اللاادرية فهم المتوقفون بالحكم على الأشياء، فلا يعرفون عنها شيئاً كما يزعمون، وإن سألتهم فسيقولون: نحن نتوقف في ذلك، ولا نعرفه، أو لا ندري عنه شيئاً، فإن قلت لأحدهم: هل أنت موجود؟ فالجواب سيكون لا أدري، وإن سألته نقيض الأول وقلت: هل أنت معدوم؟ فالجواب أيضاً سيكون بلا أدري، وهو لا يختلف من حيث التفاهة عن الأولين، ومآله كمالها.
ولرب سائل يسأل فيقول: ألست من نفاة كون التفاهة فلسفة وعقيدة وفكراً! إذاً كيف تقول بأن جذور التفاهة ترجع أو تلتقي بالسوفسطائية في يوم من الأيام.. أليسوا فلاسفة؟
وهذا السؤال وجيه جداً لو كنت ممن يصنف السوفسطائية بأشكالها الثلاثة على أنها فلسفات أو عقائد، وهذا ما لا أستطيع تصوره، أو لا أقبل به على أقل تقدير، أنا أرى أن السوفسطائية حالة عبثية تاريخية تافهة في أغلب وأكثر جوانبها، وتصوراتها للأشياء، لا يمكن ولا بأي شكل من الأشكال تصنيفها على أنها فلسفة، وبالتالي إقحامها جبراً في الفلسفة والفكر.. فالأقسام الثلاثة كما نرى تؤدي لنتيجة واحدة وهي نسف الحقيقة من أساسها وعدم اعتبارها، وهي نوع من اللف والدوران وتسخير المصطلحات، وهم في الحقيقة قوم من الجاهلين التافهين الذين رفعوا رؤوسهم بين فلاسفة الحقيقة، فأرادوا أن يتعالموا وينظروا فقمعهم فلاسفة الحقيقة.
والذي يعد هؤلاء من الفلاسفة والمفكرين واحد من اثنين: إما تنزلاً عند السياق التاريخي في تناول الأفكار والظواهر، فهم ظاهرة تاريخية، بالتالي من الممكن أن تناقش على أنها فلسفة، وإما إنه به لوثة من التفاهة والسفسطة بالنظر إلى الأشياء. أما أهل الحق والحقيقة فلا ينظرون إليهم إلا على أنهم قوم بهم جنة وهوس وتفاهة لا أكثر من ذلك، ولذلك قال الكثير أن الجدال معهم ضرب من العبث، وظهرت بعد ذلك كتب الجدل والمناظرات وتبينت الحجج والبراهين عند الجدالات والمغالطات، وصنف أرسطو أصول المنطق الذي يضبط التفكير بشكل عام، أو على الأقل كما أرى- يمنع من ظهور هكذا تفاهات في هذا العالم، حتى ذلك الجانب الإيجابي الذي تركته السوفسطائية في الحالة الفلسفية عند اليونانيين، والذي يردده أنصار السوفسطائية والقائلون بفلسفيتها وفكرها، بل ربما يذهبون إلى أكثر من ذلك فمنهم من يرى أنها أم الفلسفات، وقائدتها، وأنها حملت لواء التفكير في يوم من الأيام. وهم بذلك يقتلون العقل ويتفوهون بالتفاهة، لأنه لا يمكن أن يقال عن المجنون عاقل، ولا يمكن الجمع بين نفي الحقيقة وإثباتها، أو التشكيك بها والعاقلية! أقول: إن هذا الجانب الإيجابي كان متمثلاً بتحريك التفكير عند الفلاسفة لنقدها، على أنها حالة لا يمكن أن تستقيم مع المجتمع اليوناني حينئذ، ولذلك لم يبرح سقراط وأفلاطون وأرسطو على نقدها، والحط من قدرها وبيان عوارها للمجتمع، والتسفيه بأقوالها، لأنهم دعاة الحقيقة، والمدافعون عنها، والمسفهون للتشكيك والنفي.. وهم - أعني فلاسفة اليونان - عندما درسوا السوفسطائية، درسوها كحالة مرضية تفتك بالمجتمع اليوناني، ولذلك يجب القضاء عليها من خلال دراستها وبيان علاجها، فلم يدرسوها على أنها فلسفة قائمة بنفسها.
نعم، عندما كثر الحديث حول السوفسطائيين أرباب البيان والبلاغة في المجتمع اليوناني يومها، ظن الكثير من أفراد المجتمع غير المثقفين أن السفسطة حالة وفلسفة معتبرة، وإلا لم يتفرغ الفلاسفة لنقدها وتشويهها والتحذير منها! وهذا ما أعطى السفسطة نوعا اعتباريا في أوساط المجتمع.. تماماً كالتفاهة اليوم، حيث نظر الناس إلى انتشارها وسيطرتها على وسائل التواصل فظنوا أن لها حقيقة ونظرة وفلسفة، وخفيت وجوه قبحها ببحرها الخضم، فأصبح من الوارد جداً، بل من الطبيعي أن تجد مثقفاً أو مفكراً أو فيلسوفاً يتابع نجماً من التافهين، أو يرصد حالته، ويضحك لضحكته!! لكن هل نستطيع القول: إن هذا الشيء أصل معتبر وحجة دامغة في كون السفسطة فلسفة وفكراً؟ أبداً.. فالعوام والجهلة والقطيع لا عبرة بهم في الفكر والفلسفة، وخاصة أن الطرح السفسطي قريب من تفكير القطيع، لتفاهته ويسر تفكيكه، فمن الوارد التقارب بينهما، أو أن يتبنى القطيع السفسطة ويدافع عنها، ويرى الفلاسفة أرباب الحقيقة معتدين وظالمين لأولئك التافهين، إلا أننا تاريخياً - لا يقاس قول القائل ومدى أحقيته بكثرة الأتباع، ومن يلحقونه من الجهلة، بل باللاحقين به من أهل الدراية والعلم، أما القطيع فلا عبرة بهم، فمهمة الفلسفة قديماً وحديثاً تحليل الظواهر ودراستها وتفكيكها، وهذا لا يعني اعترافها بكل ظاهرة تدرسها، وتفككها.
اضافةتعليق
التعليقات